"الإعصار" الاجتماعي للأزمة العالمية
"أينما وجدت الحياة وجد الخطر"
الشاعر والكاتب الأمريكي رالف إيمرسون
إنها الاستحقاق المر للأزمة الاقتصادية العالمية في العالم العربي. إنها البلاء الاجتماعي الذي ازداد عنفا في أعقاب هذه الأزمة. إنها المصيبة المحققة التي حاول بعض المسؤولين في عدد من الدول العربية نفيها واهما. إنها المشكلة التي لا يمكن لأي متخصص التنبؤ بموعد حلها. إنها ببساطة ورعب، البطالة الجديدة الوليدة من عمليات التسريح التي بدأتها الشركات والمؤسسات العربية, ولا سيما في دول الخليج الحاضنة الكبرى للعمالة العربية والأجنبية, مع اندلاع الأزمة العالمية، ولا توجد في الأفق أي إشارات تدل عن أنها ستتوقف في وقت قريب. والواقع أن هذه المصيبة ليست حكرا على العالم العربي، بل شملت وتشمل حاليا كل دول العالم، المقدمة والناشئة والنامية، لكن أثرها في المجتمعات العربية ستكون أفدح، لأن خصائص ومكنونات هذه المجتمعات باقتصاداتها، لم تصل بعد إلى مستوى يمكنها من امتصاص الصدمة، أو على الأقل التخفيف من حدتها.
فالكارثة الواحدة الناجمة عن البطالة الجديدة في بلد كبريطانيا – مثلا- تقابلها كارثتان في بلد كمصر، أو سورية أو الأردن وغيرها من الدول العربية التي تعاني بطالة عالية دائمة تصل نسبتها – حسب منظمة العمل العربية- إلى أكثر من 14 في المائة، أي ما يوازي 17 مليون مواطن عربي. وإذا ما أضيفت أعداد العاطلين الجدد من جراء الأزمة الاقتصادية، فإن هذه النسبة سترتفع، وترتفع معها الآلام والمصاعب، والمشكلات الاجتماعية البسيطة والخطيرة. فقد أثبتت المعطيات الراهنة على الساحة الاقتصادية العربية، أن أحدا ليس محصنا من فقدان وظيفته، وأن المؤسسات العربية – كغيرها في العالم- تسعى إلى ضغط إنفاقها، لا لتقليل الخسائر فحسب، بل للمحافظة على وجودها، ولا سيما مع تلاشي شركات كبرى كانت حتى وقت قريب تعد مؤسسات لا تخسر أبدا.. بل لا تقهر.
لا شك أن دول الخليج العربية تتصدر المشهد، لأنها أكثر المناطق العربية جذبا للعمالة بكل أنواعها. فوفقا لمنظمة العمل العربية – مرة أخرى – هناك أكثر من 13 مليون وافد في دول الخليج من مجموع السكان البالغ 35 مليون نسمة. تستحوذ المملكة العربية السعودية على 6.4 مليون وافد منهم، و3.5 مليون في الإمارات، و1.5 مليون في الكويت، و677 ألفا في قطر، و630 ألفا في عمان، و283 ألفا في البحرين. هذه الأرقام صدرت عام 2006، وإذا ما أخذنا في الحسبان ارتفاع النمو في هذه البلدان في العامين الماضيين، وازدياد حركة الأعمال والإنشاءات في كل القطاعات، فإن الرقم قد يتجاوز 15 مليون وافد – عامل- فيها.
واستنادا إلى " أعاصير" الأزمة العالمية، فقد بدت عمليات تسريح الموظفين لدى الشركات الكبرى والصغرى في هذه البلدان، مثل كرة الثلج ، تبدأ صغيرة، ثم لا تلبس أن تكبر لتشكل هامة يستحيل الوقوف في وجهها. فتلك الشركة العقارية الإماراتية – على سبيل المثال- التي بدأت قبل شهرين بتسريح 200 من موظفيها، لم تلبث أن رفعت العدد، بينما أقدمت أخرى – إماراتية أيضا- على تسريح 600 موظف كأول دفعة. وهذا الأمر ليس حكرا على الإمارات، بل يشمل كل الدول الخليجية التي تقوم بأكبر عمليات غربلة لموظفيها في تاريخها، بما في ذلك الفترة التي عاشت فيها دول الخليج العربية، شحا تمويليا بسبب تدني أسعار النفط في فترة الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي. فكل المؤشرات تدل الآن على أن العام المقبل سيشهد تسريح ما بين 26 إلى 30 في المائة على الأقل من الموظفين والعاملين في دول الخليج، من كل القطاعات: العقارية، السياحية، التجارية، المصرفية، الصناعية، والخدمية إلى آخر اللائحة. وإذا أردنا أن نكون أكثر واقعية، فإن ضربات الأزمة تنذر بنسبة أعلى للأشخاص الذي سيفقدون وظائفهم في العام المقبل. فعلى سبيل المثال فإن قطاع المصارف وحده سيشهد تسريح ما بين 5 إلى 8 في المائة من موظفيه. وفي دولة كمصر التي لا تستقطب العمالة العربية أو الأجنبية، تم الاستغناء عن 20 في المائة من موظفي القطاع المصرفي فيها.
لقد كان عضو مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة أبو ظبي خلفان الكعبي (بالمناسبة فاز بأعلى الأصوات في انتخابات "الغرفة" الأخيرة)، من أكثر الشخصيات الاقتصادية مسؤولية وصراحة وواقعية، عندما أعلن أن قطاع البناء والتشييد في الإمارات، سيشهد في عام 2009 تسريح نحو 45 في المائة من القوى العاملة فيه. وهي نسبة خطيرة.. وخطيرة جدا، تجسد المخاوف بلا شك، لكنها في الوقت نفسه يجب أن توفر مشاريع حلول، ومساحة زمنية واقعية للنجاة من فكي الأزمة الضارية. فالقضية لم تعد مرتبطة بالسمعة، بقدر ما هي مرتبطة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبوضع سياسات اقتصادية ناجعة، تأخذ في الحسبان التحولات العالمية، ليس على ساحة الأداء الاقتصادي، بل على صعيد الأيديلوجية الاقتصادية نفسها.
لا بد أن تولد عمليات التسريح هذه إعصارا اجتماعيا خطيرا، هو في الحالة العربية، أشد منه في الحالة الغربية. فالمسرحون الغربيون يعرفون أن بلادهم ستوفر لهم الضمانات الاجتماعية الملائمة لكرامتهم، والمتوافقة مع حالاتهم الإنسانية. فعندما تتخلص القطاعات المختلفة في ألمانيا – مثلا- من 215 ألف وظيفة – حسب التقديرات – في عام 2009، هناك 215 ألف وثيقة ضمان اجتماعي تقابلها على الفور. وكذلك الأمر في بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الدول الراشدة. لكن ما الضمانات الاجتماعية للمسرحين العرب في بلدانهم؟ ببساطة.. إنها لا توجد. وهنا تكمن كارثة الأزمة بشقها الاجتماعي.
إن مثل هذه الأزمات تطرح عادة مفاهيم جديدة للتأهيل في المجتمعات المتقدمة. فعلى سبيل المثال بدأت نسبة من المسرحين من وظائفهم في قطاع المصارف في الولايات المتحدة ، بالتوجه إلى الجامعات والمعاهد، والمراكز التدريبية، لإعادة التأهيل في مجالات أخرى، على اعتبار أن أحدا لا يضمن انتعاش هذا القطاع في فترة قصيرة. ولكن هل يستطيع الموظف العربي الذي فقد وظيفته، تأهيل نفسه مجددا؟!
كيف له ذلك، وهو غارق في متاهات تأمين اللقمة والقسط المدرسي، ومصروفات العلاج؟ إنه بين فكي مفترس.. هي الحاجة.