عاد بخفي منتظر
ما زلنا نتذكر حين سقط تمثال صدام فتسابقته أيدي العراقيين وأقدامهم صفعاً وركلاً، ومشهد العراقي الذي خلع حذاءه وانهال به على وجه التمثال. هذا السقوط الرمزي الذي تزامن مع سقوط صدام السياسي جسد ارتباط السياسة بأحذية العراقيين حين يودعون حقبة غير مأسوف عليها. ومرة أخرى يودع صدام نفسه حين غادر الدنيا بأسرها بالأحذية، حين ركلت جثته بعد إعدامه، ذلك المشهد الذي خلا من أبسط معاني الإنسانية، وحضور النظام، وهيبة الدولة، ليحل محله غول الانتقام، وغوغائية العصابات. وهذا الأسبوع تكرر المشهد ولكن بطريقة أخرى، حين ودع الصحافي منتظر الزيدي الرئيس بوش برشق فردتي حذائه تجاهه، ولولا سرعة استجابة الرئيس وخفة حركته لأصابته إحداهما. ولكن القضية ليست أنه تمكن من تجنب القذيفتين، ولكنه سقوط رمزي لبوش، ووداع مرة أخرى على الطريقة العراقية.
لقد أصابت الفردتان بوش الرمز حتى وإن انحنى لتجنبهما، وكأن انحناءه تمثيل لرمزية الهبوط أمام وابل الغضب العراقي. ويشاء القدر أن يمد المالكي يده ليدفع الفردة الثانية، فأصبح هدفاً لها مع ضيفه. ولست أدري هل أعجب أم لا لردة الفعل الشعبية في العالم العربي، وهذا الشعور الطاغي بالرضا والفرحة لحصول هذا الحادث.
مما لاشك فيه أن الأمريكان ارتكبوا أخطاء فادحة في العراق باعترافهم، بدءاً بالهجوم ذاته، وتدمير مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش العراقي، ليخلوا الطريق أمام المليشيات والجماعات العسكرية، والقوى الخارجية التي تدعمها ليعبثوا بأمن وسلامة العراق، ويهددوا المنطقة بأكملها. يعلق بوش على الحادثة بعد أن استقل طائرته الرئاسية قائلاً: "لم أفهم كلام الرجل، ولكني تمكنت من مشاهدة (نعله)". واستخدم بوش كلمة (نعل) أو أرضية الحذاء، قاصداً اللعب بالكلمات بغرض الدعابة، حيث استخدم كلمة (نعل) بالإنجليزية وهي المشابهة لكلمة (روح)، اللتين تتطابقان في النطق وتختلفان في التهجئة، لتوهم الدعابة أن الرئيس لم يفهم كلام الصحافي ولكنه استطاع أن ينفذ إلى روحه ويفهم رسالته، مع الفارق الشاسع بين سمو الروح ووضاعة النعل، ولكن اشتركا فيما يبدو في وداع رئيس حظي في بلاده بأقل مستويات الرضا الشعبي على مر التاريخ الأمريكي حسب استطلاعات الرأي الأمريكية، وها هو يعود من العراق بخفي الصحافي، لتضاف لمجمل ما حققته الشركات الأمريكية من مكاسب في العراق.
ما دعاني لأتردد بين أن أعجب أو لا أعجب من ردة الفعل العربي، هو استغرابي قبول هذه الحادثة على سوقيتها ودناءة الرسالة التي توصلها. لقد أوصلت ردة الفعل العربي رسالة واضحة، أن الشارع العربي محبط ويتمسك بأي قشة تعيد له كرامته المهدرة وشعوره بالرضا والطمأنينة، والحنق الشديد على من تسببوا في هذه الحالة، وتتزعمهم ــ حسب رؤية الشارع العربي ــ أمريكا. ولكن أن تحتفي القنوات العربية بالحدث وتكرره عشرات المرات في الأيام القليلة الماضية فهو ينبئ عن حس إعلامي هابط لدى هذه المؤسسات وفقدانها رسالة إعلامية واضحة. ولو حصل الحادث في دولة أخرى، كأن يقذف صحافي صربي الرئيس الأمريكي بالحذاء أثناء زيارته لصربيا، فأشك أن القنوات الفضائية الصربية والأوروبية ستحفل كثيراً بالأمر، أو تحول الصحافي إلى بطل قومي، رغم وقوع الضرر الأمريكي على صربيا، وشعور الحنق العام لدى الصرب تجاه أمريكا. ولكن القنوات الفضائية العربية بدأت تزايد على الحادثة، وتختطفها، لتبرز كمدافع عن الكرامة العربية التي ردها حذاء، ومثلها القوى السياسة في العراق، وهي الأخرى تحاول اختطاف الحادث لتبرز بين منافسيها، فهذا التيار الصدري يسير مظاهرة في مدينة الصدر يطالبون فيها بإطلاق سراح "ابنهم" منتظر الزيدي.
أرى أن تصرف الزيدي غير مبرر، وغير مقبول، وإهانة للشعور العام العربي الإعلامي والشعبي، ناهيك عن دلالته على فساد الذوق العام بقبول مثل هذا الهجوم السوقي، ولكن مع كل هذا أرى "روحه" وأعرف أسباب حنقه، وأشاركه أغلبها، وكيف لا يصاب بالإحباط والغضب. ولكنه في كرسيه في ذلك المؤتمر الصحافي لم يكن يمثل نفسه، بل كان يمثل المؤسسة الإعلامية التي ينتمي إليها. وكان بإمكانه إحراج بوش والمالكي بطريقة مهنية محترمة عن طريق مواجهتهما بالأرقام التي تثبت الفشل الأمريكي في العراق، وفشل الحكومة العراقية في عمل أي شيء للنهضة بالعراق، بل تركته فريسة سهلة للشركات الأمريكية. كان بإمكان الزيدي "الصحافي" أن يلفت نظر الرئيس بوش الذي جاء بحثاً عن الشكر على عمله في العراق أنه مني فيها بهزيمة كبيرة. هزيمة أخلاقية وعسكرية.. هزيمة مقاس 44.