حلول بـ "آليات" الأبوة؟
تذكرت فترة حكومة مارجريت تاتشر في بريطانيا في حقبة الثمانينيات، حينما أقدمت حكومة جوردون براون البريطانية الحالية على خطوة تاريخية جديدة، في خضم علاجها لآثار الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد البريطاني، فالحكومة الحالية قامت قبل أيام قليلة من أعياد الميلاد ورأس السنة بتخفيض معدلات الفائدة على القروض السكنية بنسبة 2 في المائة لتصل إلى أدنى مستوى لها منذ عام 1951. أما حكومة تاتشر فقد قامت في زحمة الكساد الاقتصادي الذي تسببت فيه سياستها الاقتصادية (أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات) برفع معدلات الفائدة، الأمر الذي دفع المصارف والمؤسسات المالية إلى وضع يدها على المنازل المرهونة التي عجز أصحابها عن تسديد أقساطهم الشهرية ـ بفعل الكساد - والنتيجة كانت طرد هؤلاء من منازلهم، ولجوئهم إلى المعونات الحكومية والتأمينات الاجتماعية.
وعلى الرغم من أن حكومة براون اتخذت وتتخذ مزيدا من الإجراءات لمجابهة الأزمة، بما في ذلك تأميمها لبعض البنوك، ودعمها المالي لبعض الشركات المتداعية، إلا أن هذه الخطوة اكتسبت بعدا إنسانيا، بات مطلوبا الآن أكثر من أي وقت مضى، فالأزمة ـ كما عرف الجميع واكتووا بنارها ـ لم تنحصر في المؤسسات فقط، بل التصقت بالأفراد. وربما هذه هي الأزمة الاقتصادية الوحيدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي كانت أكثر عدوانية تجاه الفرد والأسرة، وبالتالي تجاه المجتمع، مثلما هي هجومية ومدمرة تجاه المؤسسات.
لقد استطاع براون من خلال هذه الخطوة أن يقنع المواطن البريطاني أن حكومته لا تنظم أموره، ولا تدير شؤونه، ولا تصدر القوانين والقرارات فحسب، بل تقوم أيضا بدور الأب في وقت المحن. ولا يمكن على الإطلاق أن يكون هناك بديل لدور الأب (وليس الوالد) عندما تواجه الأسرة المشكلات والمصاعب، وضيق ذات اليد، فكيف الحال والأمر يرتبط بالمأوى؟ الواقع أن حكومة العمال الحالية، كانت ـ ولا تزال ـ الحكومة الوحيدة بين الحكومات الغربية، التي اكتسبت مزيدا من التأييد الشعبي خلال الأزمة الاقتصادية العالمية الطاحنة، وهذه "الثروة" الشعبية الجديدة لم تأت من اندلاع الأزمة، بل جاءت من طريقة علاجها، ومن بعدها الإنساني.
ولعل هذا العامل الغائب عن الساحة الأمريكية كان سببا في منح الرئيس الأمريكي الديمقراطي المنتخب باراك أوباما مزيدا من الأصوات في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ونجح هذا الأخير في جني أصوات كانت حتى وقت قريب، تذهب تقليديا للحزب الجمهوري، فإدارة جورج بوش التي تحزم حقائبها خارجة من البيت الأبيض إلى غير رجعة، لم تضع منذ انطلاق الأزمة العالمية، ضمن أولوياتها مصلحة الفرد والمجتمع، بل كانت قد وضعت مصالح المؤسسات في قمة الأولويات، على الرغم من أن هذه الإدارة هي المسبب المباشر والرئيس للأزمة برمتها. وقد بدا هذا واضحا من خطة الإنقاذ التي وضعها بوش ومساعديه، حيث شهدت ـ في قراءتها الأولى ـ رفضا من الكونجرس الأمريكي الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، لا لأنهم لا يريدون حلا للأزمة، بل كانوا يرغبون في خطة إنقاذ للمجتمع، بزخم خطة إنقاذ المؤسسات نفسها.
إذا.. استطاع جوردون براون، من خلال الرؤية "الحانية" لمصاعب البريطانيين، أن يحقق الكثير من الأهداف، في مقدمتها: صيانة المجتمع من التداعيات المالية عليه، وتحصينه من الهزات الارتدادية للأزمة العالمية، ومحاولة تجميع قواه وتطويرها لمواجهة أية أزمات قد تحدث في المستقبل، خصوصا أن العالم لم يتوصل بعد إلى حلول ناجعة للأزمة الراهنة، لأن الدول الكبرى والمؤثرة في الساحة العالمية، لم تتفق ـ حتى الآن ـ على صيغة حل واحدة متكاملة، تستند إلى حقيقة أن المعايير الاقتصادية العالمية قد تغيرت بالفعل، وأن أي صيغة للحل، لا بد أن ترتكز على تأسيس "ثقافة اقتصادية عالمية جديدة"، فالجميع بات يعرف أن الكبير.. لم يعد بهامته، والصغير اكتسب هامة متعاظمة.
إن الاهتمام بالفرد والمجتمع في خضم الأزمة لا يعني على الإطلاق إهمال المؤسسات المالية، فهذه المؤسسات هي في الواقع تجميع لـ "ثروات" الأفراد في مجالات مختلفة، انطلاقا من أموال المعاشات إلى المدخرين والمودعين، وحملة بوالص التأمين، وغيرها، لكن الفارق بين المؤسسة والفرد هو أن الأخير أسرع عرضة للمخاطر، كما أنها تصيبه بصورة مباشرة، وتنال منه ليس فقط على صعيد المأوى ـ وهذه من أهم النقاط ـ لكن أيضا على الأصعدة المعيشية الأخرى، بما في ذلك لقمة العيش والتعليم والعلاج.
إنها عناصر متشابكة مع بعضها بعضا، يشكل الفرد عمودها الفقري. من هنا فهمت الحكومة البريطانية أنها لكي تتحصن يجب أن تلتصق بالمجتمع، ولكي تضمن الاستمرار يجب أن تجمع مكنونات المجتمع تحت جناحيها، فبعد انطلاق الأزمة الاقتصادية العالمية، بدأت الحكومات تفقد جزءا من خصوصيتها في إدارة المجتمع، فالحكومات الناجحة ـ بعد الأزمة ـ بات عليها صيانة المجتمع عن طريق توفير الفرص للأفراد.