ماذا يفعل هذا الأمير؟

كانت الأيام طوالا والأخبار كثارا، ارتجت الدنيا خلالها وأرجف العالم فيها، سقط الرشد من عالي منطقه وخالف الفكر صاحبه، تلاشت ثقة الأمس بمعرفة الغد، فلم يعد المرء قادراً على توقع أبسط الأشياء وأسهلها، اهتز الإحساس بالأمن وزاد الهمز بالحذر، شك الجار بجاره والزميل بزميله والجالس بجليسه، أصبحت الغربة ذليلة وهم الوطن بمغتربيه.
هذه الأسطر كانت وصفا للوضع الذي تلا أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 لسنوات قليلة والتي تغيرت فيها موازين العلاقات الدولية وأحدثت انقسامات كبيرة في المجتمع الدولي. في غبت تلك السنوات العاصفة ولجتها المتلاطمة وظلماتها المترادفة احتاجت المملكة إلى أبرع وأقدر رجالها لمواجهة موجات التشويه وحملات التصوير التي حاولت النيل من ثقافتنا وقيمنا ومملكتنا. كانت بمثابة حرب, كان الإعلام ساحتها والفكر والثقافة أسلحتها وتغيير الفهم غايتها. كان كسب الدول الأوروبية مهما جداً في الفوز بهذه المعركة مما استدعى حضورا سعوديا متميزا. عندما عُين سمو الأمير تركي الفصل سفيرا في المملكة المتحدة وجمهورية أيرلندا لم يجلس حبيس أسوار السفارة في لندن بل ذهب إلى كبرى القنوات المرئية والمسموعة والمقروءة مجادلاً ومناظراً ومناقشاً أدباء, ومثقفين, وسياسيين, وإعلاميين, ورجال دين من شتى أنحاء المعمورة. دخل قاعات المحاضرات في عديد من الجامعات ليس بهدف مقابلة الطلبة السعوديين فحسب بل للتحدث إلى أساتذة وطلبة تلك الجامعات. كان يقول للطلبة السعوديين إنهم سفراء لبلادهم, وكنا نقول عنه إنه سفير السفراء. كان متحدثاً رائعاً ومحاوراً باهراً, أقنع الجميع بسلامة قيمنا وكرامة أخلاقنا وبسماحة عقيدتنا.
ترك المكاتب والوظائف الحكومية بعد خدمة تخطت الأربعة عقود من الزمن. كان مستشاراً وكان رئيسا للاستخبارات لأكثر من عقدين من الزمن وكان سفيراً رائعاً في بريطانيا وأيرلندا ولاحقاً في أمريكا. اليوم أخذ الأمير تركي وظيفة قل من ذوي الخبرات أمثاله أخذها. محاضراً في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة التي تخرج منها نحو 40 عاماً مضت. لم أكن لأدع هذه الخطوة الشيقة من سموه أن تمر دون التطرق إليها والتعليق عليها, ففيها ما يستحق الإطراء وفيها ما يستحق التأمل والنقاش فالمملكة تمتلك أعدادا كبيرة من ذوي الخبرة والمعرفة التي ظلت حبيسة أضلعهم وسجينة جدار جماجمهم!! ماذا دفع هذا الأمير إلى هذا العمل؟ وأي نوع من المحاضرين سيكون؟ وما القيمة التي سيضيفها للجامعة والأكاديمية بشكل عام؟
مما لاشك فيه أن انضمام سموه إلى هذه الجامعة يعد مكسبا كبيرا لها ولطلبتها, فعادة ما تحاول الجامعات استقطاب ذوي الخبرة الكبيرة من سياسيين ورجال أعمال وأدباء مميزين بغض النظر عن مؤهلاتهم الأكاديمية. إثراء تجربة الطلبة الجامعية لا تعتمد على البحث العلمي ونتائجه فقط ولكنها تشمل كل ما يسهم في دغدغة وتمطيط الفكر وكل ما يؤثر في العقل وكل ما يزيد في تطوير القدرة التحليلية لدى الطلبة وما يرفع من ثقتهم بأنفسهم. ما دفع الأمير تركي إلى الدخول في العمل الجامعي هو السبب نفسه الذي أنجحه في مناصبه التي تولاها في القطاع الحكومي ألا وهو قدرته الأكاديمية على المجادلة والمناظرة والحوار التي أجادها مدى حياته. ما دفعه هو حبه للتفاعل الأكاديمي والعطاء الفكري, لم يختزن خبرته لنفسه بل ذهب لإشراك طلاب العلم والمعرفة فيما اكتسبه من خلال تجربة العقود الأربعة بعد تخرجه من هذه الجامعة.
تخيلوا مدى التأثير الذي سيحدثه سموه من خلال تدريسه وتفاعله مع الطلبة السعوديين وغير السعوديين في تلك الجامعة. أين الوزراء وأصحاب المناصب ممن ترك العمل الرسمي من قاعات جامعاتنا؟ أين رجال وسيدات الأعمال الذين حققوا نجاحات رائعة من إشراك طلبة الجامعات في تجربتهم؟ أين الأدباء والمفكرون من طرق عقول طلبتنا ومحاكاتها بما أبدعوا فيه؟ أين الجامعات من إشراك عدد أكبر من أهل الخبرة ليس فقط في التدريس الرسمي لموادها بل في الحصص الدراسية التي عادة ما تكون مفتوحة لكل من تواجد في الحرم الجامعي. أحياناً تكون الجامعة سببا في عدم تواجد هذا التفاعل, فمثلاً سبق لي وأن خاطبت إحدى الجامعات السعودية في إحدى المدن لإعطاء محاضرة لأساتذتها وطلبة الدكتوراة والماجستير فيها حين كنت متواجد للقيام ببحث علمي في تلك المدينة. أرسلت الإيميل قبل أكثر من شهر من زيارتي لتلك المدينة لأكثر من أستاذ جامعي بمن فهيم رئيس القسم ولم يرد عليَّ سوى واحد منهم قائلاً إنه خارج المملكة. إذا كانت الجامعات وأساتذتها لا يرغبون في المشاركة الخارجية فيه والله مصيبة.
إثراء البيئة الجامعية والرفع من مستوى خريجيها لا يتطلب درجة دكتوراة فقط بل يحتاج إلى كل ما يحضر الحقائق الفلسفية غير الفلسفية من خارج الحرم الجامعي إلى قاعات التدريس. في جامعة مثل جامعة مانشستر وتحديداً في كلية إدارة الأعمال نعتمد على المشاركة الخارجية من مديري شركات وأندية رياضية وبنوك وقطاعات حكومية وأعضاء برلمان وسياسيين... إلخ. في القيام بمحاضرات تدخل في البرامج الرسمية للكلية وللمحاضر كامل الحرية في دعوة من يراه مناسباً وفوق هذا سيدعم مالياً لتغطية تكلفة المحاضرين الزائرين. هذا بجانب الحصص الدراسية التي يدعى لها زوار من خارج الجامعة ومن خارج بريطانيا بهدف إثراء الحركة الأكاديمية في الجامعة. ما فعله هذا الأمير يفترض أن يكون مثالا يحتذى به, فإثراء التفاعل الأكاديمي في جامعاتنا يتطلب مساهمة أكبر من ذوي الخبرات في مملكتنا وتتطلب أبوابا وعقولا مفتوحة في جامعاتنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي