Author

الحي السكني

|
يُعدُّ الاجتماع الإنساني والعيش في مجموعات من أهم الخصائص البشرية، بل عدَّه ابن خلدون من الضروريات الإنسانية، وذلك للأُنْس بالعشير ولزوم اقتضاء الحاجات كما في طبع الإنسان من التعاون على المعاش؛ فالقبائل الرحل تتنقل في جماعات، وتضرب خيامها على شكل مجموعة. وعندما استوطن الإنسان وظهرت القرى، وخطَّ بعد ذلك المدن؛ تميزت مستوطناته العمرانية بمكوناتها من الأحياء السكنية. والحي السكني نسيج عمراني بخصائص اجتماعية وبيئية وخدمية تحقق متطلبات سكانه ضمن مفهوم الطبيعة البشرية للاجتماع والتعارف - (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) "سورة الحجرات الآية رقم 13" - والتعاون فيما بينهم. وتُعدُّ الأحياء السكنية إحدى حلقات الانتماء الإنساني للمكان، التي تبتدئ بانتماء الإنسان إلى المسكن، وتنتهي بانتمائه لمدينته وولائه لوطنه؛ ففقد حلقة الانتماء للحي قد يؤثر بشكل أو بآخر في بقية سلسلة الانتماء والولاء، فيجب - إضافة إلى ما يوفره الحي السكني من متطلبات الحياة اليومية للسكان - أن يقوِّي روح الجماعة والتقارب بين سكانه. وقد ظهرت الأحياء السكنية الحديثة ذات التخطيط الشبكي قبل ستة عقود تقريباً، وانتشرت على نطاق واسع في جميع مناطق المملكة؛ استجابةً للحاجة إلى استخدام السيارة بوصفها وسيلة أساسية للتنقل. وقد أسهمت تنظيمات المخططات السكنية على مر السنين في استمرارتطبيقها بشكلها الراهن. ونتيجة للنمو المتسارع في توفير متطلبات السوق من الوحدات السكنية بسرعة ووتيرة تفوق سرعة ووتيرة تطوير الأحياء وتنسيقها وتوفير كامل منظومة الخدمات والمرافق الخاصة بها، لم تصل جودة كثير من الأحياء السكنية المعاصرة إلى مستوى جودة الوحدات السكنية المقامة فيها، وعجزت غالبية الأحياء عن الوفاء بوظائفها الاجتماعية، وهو ما أخل بمنظومة العلاقات الاجتماعية بين الجيران. وما الحي السكني إلا جسد وروح، يتكون الجسد من عناصر الحي ومكوناته العمرانية والمعمارية، (مثل: الشوارع وبناها التحتية، والحدائق، والساحات، والمساكن، والمساجد، والأسواق، ومباني الخدمات الأخرى)، وأما روحه فتظهر وتسمو بالعلاقات الإنسانية (الاجتماعية منها والبيئية والنفعية) بين السكان، وبينهم وبين محيطهم العمراني والبيئي. ونجد تأكيداً لأهمية تقوية العلاقات الإنسانية والإيجابية بين سكان الحي الواحد فيما يأمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناية بحقوق الجار وأهمية مراعاتها والحفاظ عليها في الأحاديث الشريفة، مثل: "‏ما زال يوصيني‏ ‏جبريل ‏بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"، وقوله: "‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ..."، وغيرها كثير من الأحاديث الشريفة. وإذا عُلم ذلك وجب على المصممين والمخططين العمرانيين التعامل مع تصميم الحي السكني بوصفه كياناً يتفاعل مع متطلب العلاقات الإنسانية الإيجابية بين السكان وبيئتهم السكنية العمرانية والطبيعية، وأن يعامل الحي السكني بوصفه كائناً حياً قابلاً للنمو الديناميكي المتفاعل مع الاحتياجات المتغيرة للسكان، مع العناية بالاستدامة البيئية، وتقوية الروابط الاجتماعية، والعمل على خفض تكاليف إقامة الأحياء السكنية وصيانتها.
إنشرها