تعيش أوروبا اليوم واحدة من أكثر أزماتها الاجتماعية والاقتصادية تعقيدا منذ عقود. فالتراجع الحاد في المعروض السكني جعل من قضية السكن محورا أساسيا يمس استقرار المجتمعات وتوازنها الاقتصادي، بينما أدى الارتفاع المستمر سواء في أسعار المنازل أو الإيجارات إلى تآكل القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة.
وتشير مؤسسات الاتحاد الأوروبي إلى أن القارة تواجه أزمة عقارية متعددة الأوجه تتجاوز حدود العرض والطلب، وتترك أثرا عميقا على النمو.
كم نسبة الارتفاع في أسعار المنازل الأوروبية؟
سجلت أسعار المنازل في القارة الأوروبية ارتفاعا بنحو 60.5% بين 2015 و2025، وهو معدل يفوق بكثير نمو الدخل الحقيقي للأسر. ورغم اختلاف حدة الأزمة بين شرق القارة وغربها، فنها ظاهرة شاملة. فالمجر تمثل المثال الأبرز على التضخم السكني، إذ قفزت الأسعار هناك بنحو 277%، بينما شهدت ليتوانيا ولاتفيا وتشيكيا زيادات تجاوزت الضعف.
حتى الاقتصادات الكبرى في غرب أوروبا لم تنج من هذا الاتجاه، إذ ارتفعت أسعار المنازل في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وهولندا بنسب 51% و26% و72% و110% على التوالي. وحدها إيطاليا شكلت استثناء نادرا، حيث سجلت تراجعا طفيفا بنحو 1% بفعل تباطؤ الاقتصاد وتراجع الطلب المرتبط بالشيخوخة السكانية.
لكن الأزمة لا تقف عند حدود أسعار البيع، فالإيجارات أصبحت عبئا خانقا في المدن الكبرى، حيث تلتهم ما يقارب نصف دخل الفرد في مدن مثل برشلونة وبرلين وباريس. وتشير بيانات رسمية إلى أن الإيجارات ارتفعت بنحو 30% في المتوسط منذ عام 2010، وسط منافسة شديدة على الوحدات السكنية.
ويقول أندرو دي. سميث، الاستشاري في مجال الرهن العقاري لـ"الاقتصادية"، "أسواق السكن في أوروبا لم تعد تستوعب دخول الطبقة المتوسطة الجديدة. فالنمو العمراني لا يلاحق الطلب، والقدرة الشرائية لم تعد تكفي لدفع الحد الأدنى للدخول إلى سوق السكن".
الأسرة الأوروبية تنفق 20% من دخلها على السكن وقد تصل إلى 40%
تظهر الأرقام حجم الضغط المالي الذي تعيشه الأسر الأوروبية، إذ لم تتمكن واحدة من كل عشر أسر خلال العام الماضي من سداد الإيجار أو أقساط السكن في موعدها. وبينما تنفق الأسرة الأوروبية نحو 20% من دخلها المتاح على السكن، ترتفع النسبة إلى 40% أو أكثر بين سكان المدن الكبرى ذات الأسعار الملتهبة.
هذا الضغط المتزايد يهدد الدور الاقتصادي للطبقة المتوسطة ويقيد قدرتها على الاستهلاك، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على النمو والاستقرار الاجتماعي.
"قضية السكن أصبحت عاملا يعمق عدم المساواة داخل الجيل الواحد وبين الأجيال. قطاع واسع من الشباب لم يعد قادرا على بدء حياته بشكل طبيعي، وهذا يترك أثرا واضحا على النمو الاقتصادي والديموغرافي" بحسب فيليب جونسون، أستاذ الاقتصاد الاجتماعي لـ"الاقتصادية".
وتعكس بيانات المجلس الأوروبي حجم الفجوة القائمة في السوق، إذ تحتاج القارة إلى نحو مليون وحدة سكنية جديدة فورا لسد العجز الحالي. لكن المؤشرات الاقتصادية تسير في الاتجاه المعاكس، حيث سجلت استثمارات البناء تراجعا بأكثر من 2% في العام الماضي، وسط توقعات بانكماش إضافي هذا العام، ما يشير إلى أزمة ممتدة في العرض السكني.
وتوضح آن ريد، خبيرة الإسكان في المفوضية الأوروبية، أن الأزمة الحالية ليست عابرة، قائلة "ما نواجهه اليوم ليس مجرد دورة اقتصادية سلبية، بل أزمة بنيوية قد تستمر لسنوات ما لم يحدث تحول جذري في سياسات البناء والإسكان".
وتضيف لـ"الاقتصادية"، "تكلفة البناء ارتفعت بنسبة 56% منذ عام 2010، وهناك نقص واضح في العمالة الماهرة، بينما تبقى أسعار الفائدة المرتفعة عقبة أمام قدرة الشركات والأفراد على الاقتراض. والأهم أن 75% من شركات البناء الأوروبية لا تستثمر في الابتكار، وهذا يعرقل تطوير حلول جديدة تخفف الضغط في القطاع".
هل من المتوقع أن تؤثر أزمة السكن في الاقتصاد الأوروبي؟
يخشى الخبراء أن تترك أزمة السكن آثارا عميقة على القدرة التنافسية للاقتصاد الأوروبي. فالشركات تجد صعوبة متزايدة في توظيف العمالة بسبب ارتفاع الإيجارات في المدن الكبرى، ما يدفع الموظفين المحتملين لرفض الوظائف في المراكز الاقتصادية الحيوية أو البحث عن فرص في مدن أقل كلفة.
وبينما تتباين السياسات الأوروبية في التعامل مع الأزمة، يتفق المختصون على أن القارة تدخل مرحلة تحتاج فيها إلى إعادة صياغة عميقة لسياسات الإسكان، تشمل زيادة المعروض، معالجة فجوات السوق، وتطوير نماذج سكن أكثر عدالة واستدامة، قبل أن تتحول الأزمة من تحد اقتصادي إلى أزمة ثقة تهدد تماسك الاتحاد الأوروبي نفسه.



