أب روحي ومدرب محترف

يدرس عبد الرحمن في مرحلة البكالوريوس، وكبقية الشباب المتحمس، تشتعل أفكاره بعشرات الابتكارات كل يوم. عقلية إبداعية بامتياز، تحاول دائما صنع جديد لجعل الموجود أفضل. يقول لي عبد الرحمن: ''تعلمت أن أقرأ لأطور ابتكاراتي وأستشف آراء أصدقائي حولها ثم اختار منها الأفضل وأوثقه بالكتابة، حتى الآن تخاطبت مع العديد من الجهات الداعمة للمشاريع والابتكار. كانت النتيجة كما يتوقع الجميع، محبطة، على الرغم من تفاؤلي. طلباتهم كثيرة، ولم أحصل معهم على أي نتائج بعد. لكنني مستمر في المحاولة''. يشتكي عبد الرحمن من القائمين على هذه البرامج، ويقول: ''إما أنني أسأت فهم رغباتهم وسبب وجودهم، أو هم لا يفهمون طريقة تفكيري ولا يقدرون طموحي''. في هذه اللحظة، وقبل التغيير القادم، تضاربت مشاعره وأشرعت أمام عبد الرحمن كل الأبواب بالحيرة والعجز.
لم يحوّل أيا من ابتكاراته إلى مشروع تجاري حتى الآن، لكن عبد الرحمن يفصح اليوم عن تغيير كبير طرأ له حين بدأ يشعر بوجود من يفهمه. استطاع عبد الرحمن أخيرا أن يصل إلى مرشد مستقل ملم بالأعمال والابتكار، يقول : ''بسبب شفافية مرشدي معي، أنا أستمتع بالتغيير وأشعر بالثقة وأرى المجد بين يدي، فابتكاراتي أفضل ونتائجي أغزر وهي أكثر تركيزاً وفاعلية، بل أنا الآن أفهم القائمين على دعم المشاريع وأقدر عملهم، ولا أشك أن اليوم الذي يستفيد فيه الآخرون من نتائج أفكاري بات قريباً جداً.. على الرغم من أن مرشدي لم يصنع المستحيل ولا يعرف كل شيء، لكنني الآن أكثر ارتياحا، وأشدّ حماسا''. كان المرشد يتعامل معه - حسب وصفه - بطريقة مهنية ويملك معرفة جيدة، وهو كذلك يؤمن به بشدة. هذا الإيمان والتصديق شرطان لتبادل الثقة والتأثير، والمعلمون مثلاً يعرفون هذا جيداً.
لا يمثل الإرشاد فكرة مبتكرة أو مفهوما جديدا، بل هو سلوك تاريخي يمارسه الوالدان في المنزل كل يوم. هو أداة للتواصل الإيجابي تنقل المعرفة والوعي وتبث التحفيز والتشجيع. الإرشاد خليط بين بعض الأدوار النفسية التي يقوم بها ''الأب الروحي'' وبين الخطوات المهنية التي ينفذها ''المدرب المحترف''، وبعض من ثقة الصداقة كذلك.
يحتل الإرشاد مكانة محورية في بيئة ريادة الأعمال، حتى تلك الأكثر تطوراً وتميزاً، كوادي السيلكون مثلاً. يتداول الكثيرون وادي السيلكون في كاليفورنيا كنموذج مثالي للمجتمع المصغر القائم على المعرفة، الذي يستثمر في الابتكار ويصنع من تطبيقات ريادة الأعمال أثر متسع وفرص اقتصادية عظيمة. مايك كوقني، المدير التنفيذي لإحدى منشآت التمويل المتخصصة في وادي السيلكون، يضع الإرشاد ضمن أهم مكتسبات وثروات وادي السيلكون. بل يصفه بالندرة ويقول : ''يتشارك مجتمع وادي السيلكون الموارد التمويلية والمعرفية، وبعض أنواع المعرفة والتحفيز لا تأتي إلا عن طريق الإرشاد، ومثله مثل بقية المصادر، في حاجة إلى الإدارة الجيدة والتوزيع العادل، والإرشاد مهم جداً جداً''.
قد تنسى كل ما تعرف بعد حضور دورة أو برنامج تدريبي، لكن تأثير المرشد الجيد لا يختفى بسهولة. الإرشاد أسرع وسيلة للتأثير في السلوك، لأنه ببساطة يصل إلى القلب. علاقة تُبنى على الثقة، وتُمرر الثقة. يقول أحد الخبراء : ''بعض المجتمعات لا تحتاج إلى نقل المعرفة، فالمعرفة اليوم باتت موجودة في كل مكان، لكنهم في حاجة إلى مرشدين يُشعرون أفراد المجتمع بالثقة، ويوجهونهم لاستثمار المعرفة بعد ذلك''.
من أجمل ما يقوم به المرشد إتقان الانعكاسات Reflections التي يحتاج إليها المستفيد. المرشد ليس معلما تقليديا ولا مؤديا يمتهن التلقين، بل إن المستفيد هو من يجب أن يقود الحوار. يرى المستفيد صدى أفكاره وآماله بعين المرشد المستقلة والإيجابية، ثم تقييمها بمعرفتهما وتجاربهما في نقاشٍ مشترك، ليسمح حين ذلك برسوخ الثقة وتعزيز الخيارات.
لتطوير بيئة الإرشاد يجب العمل على تطوير المرشدين وتهيئة المستفيدين. وهذا لا يحصل إلا ببرامج توعوية وتدريبية وآليات سلسلة مشجعة تكون سريعة الانتشار. بدأت فعلياً مجموعة من الدول في تنفيذ مشاريع عظمى لإتاحة الإرشاد للجميع، من بريطانيا وأمريكا حتى الصين وأستراليا. تتكون هذه المشاريع من شبكات من البرامج التواصلية والتوعوية التي تنال دعم الحكومات وتستغل مجتمعات الأعمال ومؤسسات التربية والتعليم لنشر ثقافة الإرشاد بأسرع وقت ممكن.
قد تختلف تعريفات الإرشاد ومفاهيمه، بل قد يكون من الأفضل تصميم التعريف الملائم للبيئة والمجتمع المحلي. المهم، هو أن تتاح فرصة حل المعوقات ولفت الانتباه إليه في أسرع وقت، فكل سنة تمر تعني ضياع آلاف الفرص على من هم في حاجة إلى الإرشاد. نعم المعرفة متاحة للجميع، لكن ترويجها بلا تطبيق كحفظ المتون بلا فهم. وهذا هو الدور الذي يحاول الإرشاد الاستجابة له، فيعزز الرغبة بالثقة، ويجدد الآمال بالحلول، ويوجه ثروات العقول نحو مواطن العمل والإنتاج.
المرشد أب روحي بصيغة عصرية مهنية، يمارس دوره النفسي اللطيف والمؤثر ولا ينسى دوره المهني والفني المهم. لكن، فكرة هذا الدور الجميل والرائع يجب ألا تنسينا أنه يتبقى لنا سؤالان مهمان : كيف نقنع الشاب بالبحث عن مرشد؟ وقبل ذلك، كيف نصنع المرشد؟ الحلول في كل الأحوال لا تخرج عن البرامج القيادية المؤثرة التي تنتشر وتُستنسخ بسهولة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي