نظام الخدمة المدنية والحاجة إلى التطوير

كلما دعتني الحاجة إلى ارتياد بعض الجهات الحكومية وشاهدت بعيني تجارب مؤلمة لموظفين امتهنوا تعطيل مصالح الناس دون محاسبة جادة، تذكرت نظرية قديمة أثناء دراستي للإدارة تجسد واقع الوظيفة العامة في عصور مضت، كان الموظف فيها ذا حظوة خاصة وسلطة مطلقة، قبل أن تلغي المدنيات السياسية الحديثة هذا الاحتكار الممقوت، وتصبح الوظيفة العامة حقا متاحا للجميع، ومظهرا من مظاهر ممارسة الحقوق السياسية وفق المؤهلات والجدارات، لصاحبها من الحقوق مثل ما عليه من الواجبات المرتبطة بخدمة الناس. ومن البديهي جدا أن المطالبة المستمرة لموظفي الجهات الحكومية بالحرص والإنجاز وجودة الأداء لا تكفي في ظل وجود نظام لا يفرق بين الموظف المقصر ونظيره المتميز، وأعني بذلك نظام الخدمة المدنية الحالي الذي كتب الكثير عنه، فهو لا يشجع كثيرا على تطوير الأداء ولا يحفز على طرح المبادرات الإبداعية ولا يحفل بتكريم المنتجين ولا يحمل أوجها حقيقية للمحاسبة، ما يهيئ لأرضيات خصبة لنمو الفساد والمحسوبيات وتعطيل مصالح الناس وإثارة شعور عارم بالضجر وغياب العدل، حيث يحصل الموظفون في نهاية العام على العلاوة المالية ذاتها، ويتسابقون بالترقي للمراتب الوظيفية العليا دون النظر للسجل الوظيفي للموظف وما يضاف إليه من إنجاز أو إبداع، أو قصور في خدمة إدارته الحكومية. ولو تم تطوير النظام بشكل مستمر ليكون أكثر استيعابا لمتطلبات ونظم الأداء الحديثة لما تساوى المنجزون والمقصرون، ولما ازدحمت صفحات الصحف اليومية بشكل يومي بالشكاوى التي تتعلق بسوء الخدمة في القطاعات الخدمية، وضعف إنجاز متطلبات المواطنين التي يطولها البطء والتسويف والتأجيل والقصور.
وهذه الشكاوى واحدة من صور التشخيص الواضحة لتواضع الأداء لموظفي بعض الإدارات الحكومية الذين يخضعون للتقييم السنوي طبقا لنظام وزارة الخدمة المدنية. ولا فرق سواء كانوا تابعين للمحاكم أو البلديات أو وزارة العمل أو الشؤون الاجتماعية أو وزارة الإعلام أو إمارات المناطق أو غيرها من الأجهزة الخدمية، والذين يقللون من تأثير النظام وارتباطه بتواضع الأداء الحالي لموظفي الدولة المدنيين، ربما لم يتسن لهم ملاحظة الفرق الواضح والتغير الجذري لأداء كثير من موظفي المؤسسات الحكومية التي أعيدت هيكلتها وتحولت لمؤسسات خاصة، أو مؤسسات حكومية تعمل بنظام مختلف مثل الهيئة العليا للسياحة، أو المؤسسة العامة للتقاعد، حيث برز التنافس بين الموظفين لخدمة المستفيدين بشكل ملحوظ بفضل الاهتمام بأداء الموظفين، وتغيير الأنظمة التي تهتم بالجودة وتحفيز المنتجين ومحاسبة المقصرين ومتابعة شكاوى المستفيدين. باعتبار تغيير النظام هو الإطار الرئيس لتحسين بيئة العمل بالكامل بمواردها المادية والبشرية.
انتقاد نظام الخدمة المدنية لم يقتصر على الصحف، فها هي لجنة الموارد البشرية في مجلس الشورى، وهي من أهم اللجان المتخصصة، تنتقد علنا الوضع الحالي لأداء موظفي الدولة، وتوصي بضرورة الإسراع في تحديث نظام الخدمة المدنية لجميع الجهات الحكومية بما يتلاءم مع المتغيرات والمستجدات، وتطوير الكادر الوظيفي ورفع سقف مكافأة نهاية الخدمة، وتطوير الموظفين أصحاب الوظائف البسيطة، وتحفيزهم لزيادة إنتاجيتهم واتباع آليات أكثر ديناميكية في تسديد الوظائف الشاغرة وإعادة النظر في آليات وإجراءات التقويم الوظيفي، وربط الأجور بقياس الأداء، ما ينعكس على زيادة الإنتاجية في القطاع الحكومي، وقياسها وفق معايير واضحة.
لقد تطورت مهمة الموظفين في المؤسسات الحكومية لدى دول العالم، وأصبح التركيز على اختيار العاملين ذوي المهارات العالية الذين يسهمون بوضوح في زيادة النواحي الإنتاجية والإنسانية والاجتماعية وتوثيق العلاقة مع الجمهور ومبادلته الود.
وإذا كنا قد تأخرنا في تطوير أنظمة الخدمة المدنية، فالفرصة تبدو سانحة الآن لإعادة النظر وتطويرها بما يضمن الاهتمام بمصالح المستفيدين وسرعة الإنجاز، وبالتالي تراجع الشكاوى المستمرة لمرتادي الإدارات الخدمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي