مؤتمر البتراء: إعلان هزيمة النظام العربي الرسمي

عُقد خلال الفترة من 21 إلى 22 حزيران (يونيو) في مدينة البتراء جنوب المملكة الأردنية الهاشمية مؤتمر حمل عنوان "عالم في خطر". وقد دُعي لهذا المؤتمر مجموعة كبيرة من المفكرين والمهتمين بالشؤون العالمية، كما دُعي له مجموعة من الحائزين على جائزة نوبل للسلام من العلماء والساسة الذين نالوا الجائزة بوجه حق أو من دونه، ويكفي أن نعلم أن شمعون بيريز أحد الذين مُنحوا هذه الجائزة وحضروا المؤتمر.
ومن أبرز مَن حضروا المؤتمر رئيس وزراء الكيان الصهيوني إيهود أولمرت، وشمعون بيريز، ومحمود عباس من الجانب الفلسطيني، أما رئاسة المؤتمر فكانت لليهودي الأمريكي إيلي فيزل، وهو أحد المتعصبين المدافعين عن المشروع الصهيوني.
الملك الأردني عبد الله الثاني ألقى كلمة افتتاحية في المؤتمر بين فيها المخاطر التي تواجه العالم، وأكد الدور الذي يلعبه المؤتمرون فيما يمكن أن يصدر منهم من أفكار إبداعية لمواجهة المشاكل والمخاطر العالمية، كما أكد أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي يمكن حله من خلال إسرائيل آمنة ودولة فلسطينية قابلة للحياة. ولقد استوقفني مصطلح قابلة للحياة, الذي كثيراً ما يردده الساسة العرب، وينقله الإعلام العربي. استوقفني المصطلح لأن كلمة قابلة للحياة تتضمن معنى الضعف، فالقابلية للحياة تختلف عن معنى إسرائيل آمنة, فالأمن مقترن بالقوة والمنعة، أما قابلية الحياة فالأصل الضعف ويمكن أن يضاف عنصر الحياة للكائن لكن الحياة هذه ليست بالضرورة متضمنة معنى القوة والمنعة, بل المعنى الأقرب هو الضعف.
من الأهداف التي ذكرت للمؤتمر إعطاء فرصة لقاء بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس وزراء الكيان الصهيوني إيهود أولمرت بغرض كسر الجمود في الوضع وإعادة الطرفين إلى التفاوض، وقد أعطي طعام الإفطار الذي أعده الملك عبد الله الثاني هالة كبيرة وصوّر كما لو أنه عصا سحرية ستحل القضية الفلسطينية، وقد تناسى من علقوا الآمال ونسجوا الأحلام حول هذا اللقاء العقلية اليهودية المتصلبة، المتطرفة، المتشبعة بالكراهية، والعدوان، نسي هؤلاء التاريخ الدموي لليهود عبر التاريخ، ليس مع الفلسطينيين فحسب، بل مع شعوب الأرض كافة، حتى أنبياء الله لم يسلموا من أذاهم، ووقاحتهم، وحقدهم على كل ما هو إنساني. ويكفي للتدليل على التطرف اليهودي التعليق الذي أدلى به شمعون بيريز عندما سئل عن لقاء عباس - أولمرت حيث قلل من أهمية اللقاء، وفي هذا ملمح نفسي سياسي واضح الدلالة حيث بهذا التعبير يبين أن الإسرائيليين وقيادة إسرائيل ليست متلهفة، وليست بحاجة إلى هذا اللقاء، وبهذا يضغط على الطرف الفلسطيني، الذي هو في موقف صعب جداً، مما يزيد من تلهفه على هذا اللقاء مهما كان الثمن وهذا ما حدث فعلاً، حيث الاندفاع، والبشاشة، والحماس واضح على محيا الرئيس محمود عباس حين قابل أولمرت الذي كان بروده واضحاً أثناء اللقاء، ولم يظهر ما يدل على رغبته أو حماسه لهذا اللقاء. وفي هذا الموقف تنكشف لنا نفسيتان مختلفتان في نسيجهما وتركيبهما ودوافعهما وطموحهما. هذه التصريحات من الجانب العربي والمتسمة بالاندفاع وما يقابلها من الجانب الإسرائيلي ولكن بلغة مختلفة ومنتقاة ومدروسة بعناية فائقة، تؤكد حالة النظام العربي الذي وثق نفسه بسلاسل لا يمكنه أن ينفك منها حتى أصبح اللقاء بين زعيم عربي ورئيس وزراء إسرائيل أمنية للجانب العربي يسعى إليها ويختلق لها الظروف والمناسبات، وهذا ما حدث من تحايل على العقل العربي العام وليس الرسمي، حيث وجد مؤتمر البتراء ليتحقق الإنجاز الذي لم نسبق إليه من قبل حين نجح المنسقون بلقاء أولمرت – عباس.
المؤتمر واللقاء بين الرئيس الفلسطيني ورئيس وزراء الكيان الصهيوني، عُقد في غمرة عدوان بشع تشنه الطائرات والدبابات الإسرائيلية على الفلسطينيين، التي مزقت أجساد الأطفال، والنساء، والشيوخ، وهدمت المنازل، وأحرقت الأخضر واليابس على مرأى ومسمع من العالم والمؤتمرين، دونما تحرك لضمير، بل إن رئيس وزراء الكيان الصهيوني يخاطب العالم والمؤتمرين بلغة التهديد والوعيد، حين يؤكد الحل أحادي الجانب، ويؤكد وبكل خساسة أن إسرائيل من البحر إلى النهر، ويدافع عن قتل الأبرياء على أيدي المجرمين والقتلة، حين يقول إن أمن مستعمرة سيدوريت أهم من حياة الفلسطينيين. وحري أن نكون منصفين في هذا الموقف ونقدر له شجاعته وأمانته في حمل رسالة أمته وشعبه، وهو بهذا يجسد قائداً اختارته أمته لثقتها بأنه سيحمل الأمانة ويدافع عن المشروع الصهيوني بكل ثقة.
المراقب المدقق للمؤتمر يلاحظ الاتساق في تصرفات اليهود المشاركين، سواء كانوا سياسيين، أو علماء فائزين بجائزة نوبل، فالمورت يلبس القبعة اليهودية، وفائز بجائزة نوبل يلبسها أيضاً أثناء المؤتمر، ولم تطلق عليهم صفات التطرف والإرهاب، وفي الوقت نفسه السلاح الإسرائيلي يمزق الأجساد، ويشتت شمل الأسر، وييتم، ويرمل، ومع هذه الأحداث والتصريحات يخرج المؤتمر بقرار يصف فيه مَن يفجر نفسه بأنه عدو للإنسانية، ترى من هو عدو الإنسانية؟ هل هو الذي هاجر من بلدان شتى وجاء إلى فلسطين الطاهرة وسرقها ودنسها وعذب شعبها وقتلها وقلع أشجارها، وضرب بيوتها بالطائرات والدبابات، أم الطفل الذي يدافع عن نفسه وأسرته وبستانه وبيته؟! لسنا في حاجة إلى أن نشرح من هو عدو الإنسانية لأن الكل لا يعلم، لكن عالماً سادت فيه قيم الغاب وسيطرت فيه القوة الفاحشة لم يعد للحق والعدل فيه مكان.
عندما يعقد مثل هذا المؤتمر ويسوّق له بالمنطق الذي أشرنا إليه من أنه محاولة لكسر الجمود في العملية السياسية يستوجب الأمر أن يكون التسويق منطقياً ومنسقا مع بديهيات العقل البشري، إذ لا يمكن قبول فكرة المؤتمر والسماح لليهود سياسيين وغير سياسيين بالحضور إلى مكان المؤتمر في دولة عربية، في حين يمنع وزير الاقتصاد الفلسطيني من دخول البلد الذي يعقد فيه المؤتمر.
إن الذين يعولون على المؤتمر والمؤتمرين لا بد لهم أن يفكروا بشكل صحيح، فالتميز العلمي لا يعني تميزاً سياسياً، كما أنه لا يعني الموضوعية في الأحكام والمواقف، خاصة حين يكون الأمر ذا طابع سياسي، فجزء كبير ممن حضروا المؤتمر، هم من اليهود المتعصبين الذين يدافعون عن إسرائيل وسياساتها الإجرامية فكيف يؤمل منهم أن يدعموا القضية الفلسطينية؟! إبداع هؤلاء العلماء سيكون لصالح إسرائيل، ولا أدل على ما نقول، إنه لم يصدر من المؤتمر ولا كلمة واحدة تدين اعتداءات إسرائيل. إن ضمير المؤتمرين يعمل في اتجاه واحد يصب في خانة مصلحة اليهود في العالم واليهود في فلسطين أو ما يسمى إسرائيل، ويكفينا قول الباري جل وعلا "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" وقوله "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ... ".
هل نعي حقيقتنا وحقيقة غيرنا ونفكر بعقولنا خدمة لمصالحنا ومبادئنا أم أننا نتبع مشاعرنا ونفرط في المصالح والمبادئ؟ ونجد أنفسنا نروّج للمشروع الصهيوني وفي عقر دارنا، الذي يتطلع إلى كسر حالة الجمود النفسي تجاه العدو من أجل إيجاد خلخلة في هذا الوضع طمعاً في إحلال القبول بدل الرفض.
إن ما حدث ويحدث من تفريط وتهاون في الحقوق ما هو إلا إعلان هزيمة للنظام العربي الرسمي، أما الشعوب فلن تكسر شوكتها ولن ينال من عزيمتها وشكيمتها مهما كانت التحديات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي