سوق عكاظ يطلب اللجوء إلى السويد

قد يثيركم هذا العنوان لأن سوق عكاظ العربي ليس إنسانا ولأن السويد لا تمنح اللجوء إلا للقصص الإنسانية التي تُقنع موظفي الهجرة فيها بأن حياة راويها ستكون في خطر حقيقي إن أُجبر عل العودة إلى بلده الأصلي.
ولن أطيل في الحديث عن تاريخ سوق عكاظ لأنني على يقين أن القارئ العزيز على معرفة بهذا المنتدى الذي كان يجمع العرب باختلاف قبائلهم ودياناتهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية.
وسوق عكاظ شأنه شأن مآثر عربية وإسلامية كثيرة لم يسوّقها العرب لعالم اليوم ولا سيما للغرب «المسيحي» بأسلوب يمنحه حقها ويظهرها كممارسة واقعية لحرية التعبير والكلام وحرية العبادة والحوار والجدل والإيواء وقبول الآخر وإحكام المنطق والعقل.
فلقد جرى طمر المحاسن الكثيرة لهذا المنتدى الديمقراطي من المستشرقين وغيرهم, وذلك بالتركيز فقط على كونه مبارزة شعرية وسوقا تجاريا ومكانا لحل الخلافات القبلية بين العرب ومعرضا للهجاء والمديح وإطلاق الأوصاف والألقاب.
ونسي العرب أو تناسوا أن سوق عكاظ كان قبل 1400 أو أكثر بمثابة حديقة هايد بارك الفسيحة التي تتباهى بها إنجلترا اليوم كمنبر يسمح للخطباء والمتحدثين أن يقولوا ما يشاءون ويتحاوروا فيما يرغبون بكل حرية ودون رقيب أو محاسبة.
وإلى هذه الحديقة وفي مكان محدد يطلق عليه (سبيكرز كورنر) ومعناه زاوية الخطباء يفد السياح بالآلاف كل يوم أحد لسماع ما لا يمكن سماعه خارج هذه الزاوية ومشاهدة ما لا يمكن مشاهدته من حرية الكلام والتعبير مما قد يفتقدونه في البلدان التي قدموا منها.
أولم يكن سوق عكاظ مكانا يفوق هايد بارك في حرية التعبير؟ أنا لست مؤرخا ولكنني أكاد أجزم أنه لم يتم إسكات صوت في هذا السوق في فترة القرنين اللذين ازدهر فيهما, ثلاثة أرباعها في صدر الإسلام وما بعده. ولأهمية هذا المنتدى زاره رسول الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل نزول الوحي واستفاد من الحرية الممنوحة فيه للدعوة إلى الله والتبشير بنهجه ونظرته لما يجب أن يكون العرب عليه.
هذا السوق لم يكن مكانا للمبارزة الشعرية فقط, كان عكاظ الملتقى الذي يستطيع فيه الإنسان التعبير بكل حرية عن رأيه. فيه وجد حكماء وعقلاء العرب الملاذ لنشر أفكارهم والحديث عن اتجاهاتهم الفكرية بحرية, يؤسفني أن أقول يفتقدها حكماء وعقلاء العرب اليوم على طول أوطانهم وعرضها.
العربي, إن كان يهوديا أو مسيحيا أو مسلما أو وثنيا, كان يرى في سوق عكاظ الملاذ ليعرب عن نفسه وأفكاره ويناقشها ويحاورها مع الآخرين. والحوار الحر هو جزء من الإيواء وقبول الآخر.
وأي ذكر لسوق عكاظ, منبر العرب الحر, يكون ناقصا دون ذكر واحد من أبرز حكماء العرب ألا وهو قس بن ساعدة الأيادي أسقف نجران. أذكر رتبته الكهنوتية فقط للبرهنة على الحرية التي كان يمنحها هذا السوق للناس على مختلف مللهم ودياناتهم.
ولست أنا من المعجبين بقس فقط, لقد سمع له النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأعجب به أيما إعجاب عندما رآه على جمل أحمر في عكاظ وهو يخطب في الناس قائلا: «أيها الناس اسمعوا وعوا ...».
رحم الله قسا ربما لم يدر في خلده أن السوق الذي سمح له بانتقاد أبناء جلدته من العرب مذكرا إياهم أن السماع لا يكفي بل على الإنسان أن يسمع ويعي, سيصبح أثرا بعد عين, ليس اسما ولكن ماهيةً. وما أكثر الناس التي تسمع وتؤمن بما تسمع اليوم دون أن تعيه. ولم يدر أن السوق الذي خلّده وخلّد خطبته سيلجأ إلى بلد أعجمي لأن البلاد العربية اليوم رغم سعتها لا يُسمح فيها للناس أن تعكظ بعضها الآخر بالحوار والحجة دون رقيب أو محاسبة كما كان قس يفعل في عكاظه.
ولست أدري إن كان السويديون على معرفة بسوق عكاظ وكيف كان العرب القدماء أحرارا في التعبير عن أنفسهم وآرائهم, إلا أنني أعيش اليوم في بلد حوّل مساحته الشاسعة والبالغة ما ينيف على 450 ألف كلم مربع إلى ما يشبه هذا السوق حيث فيه من الحرية والديمقراطية ما قد لا تراه في أي بلد آخر في العالم.
هذه الحرية التي لا مثيل لها جعلت السويدي يسمع ويعي ويقرأ ويفهم ويرى ويستوعب ومن ثم يقول رأيه دون خوف من أحد. والدولة تكفل له هذه الحرية من خلال دستور يقدس حرية التعبير والعبادة وقبول الآخر.
لقد منحت السويد اللجوء لسوق عكاظ العربي لأنها صدقت وآمنت أن قصته الإنسانية صحيحة وأنه سيكون في خطر محدق لو أرسلته إلى أي بلد عربي قسرة.
وأوت السويد هذا السوق ودمجته في مجتمعها واستفادت منه كثيرا حيث ساهم في ظهور كتّاب وحكماء وصحافة ومراسلين يتعدى تأثيرهم وتأثير كتاباتهم وأفكارهم حدود بلدهم الصغير.
وإن كنت لا تصدقني عزيزي القارئ, اقرأ التقرير في صفحة (4) من عدد اليوم.
وإلى اللقاء في الجمعة القادم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي