صحافي سويدي يهزّ العالم ويوقظ ضميره

أفتون بلادت جريدة سويدية مسائية تقع ضمن خانة التابلويد, ومعناه أنها ذات صدقية أقل من مثيلاتها كجريدة الغارديان البريطانية وجريدة نيويورك تايمز الأمريكية اللتان يطلق عليهما كولتي نيوز بيبرس, ومعناه انهما تقعان ضمن خانة الصحافة النوعية الموثوقة.
التوصيفات الإعلامية نسبية لأن المصداقية في الخبر والتقرير الصحافي يعتمدان في الأساس على البيئة التي ينطلق منها الإعلام. فالحكماء والخطباء العرب الذين عملوا ضمن سوق عكاظ (راجع المقال الأسبوعي للكاتب في صفحة 24) لا بد أن يبزّوا أقرانا لهم لاتمنحهم بيئتهم المقدار ذاته من الحرية والكتابة.
وأفتون بلاديت تصدر في بيئة شبيهة بسوق عكاظ العربي القديم فلا تخشى نشر خبر أو تقرير لأن السلطة او اللوبي (جماعة ضغط) الفلاني سيضغط عليها أو سيعمل على الإيقاع بها.
وهذه البيئة منحتها الجرأة والمقدرة على نشر تقرير صحافي في 17 من الشهر الماضي أقام إسرائيل ولم يقعدها حتى اليوم. في هذا التقرير كتب الصحافي دونالد بوسترم ما لم يكن يتجرأ على كتابته أو نشره أي كاتب غربي أو إذاعة أو جريدة أخرى في العالم الغربي قاطبة.
دونالد بوسترم كتب مقالا عبر فيه كل الخطوط الحمر التي تضعها الصحافة الغربية عند التعامل مع إسرائيل. في مقاله أثار أسئلة محددة عن إسرائيل وممارساتها, ولا سيما خطفها للشباب الفلسطيني وقتلهم بغية سرقة أعضائهم الداخلية وبيعها في سوق التجارة غير الشرعية للأعضاء البشرية الرائجة في إسرائيل.
قرأت مقال دونالد بوسترم بتمعن وتابعت الضجة العالمية التي أثيرت حوله. كل ما فعله هذا الصحافي السويدي هو أنه عكظ (من سوق عكاظ) إسرائيل باللدد والحجج مثيرا جملة من الأسئلة حول الموضوع.
وحجج دونالد بوسترم قوية ومنطقية لأنه يربطها بالكشف عن خلية أمريكية تتاجر بالأعضاء البشرية بطريقة غير شرعية مع إسرائيل جلّ أعضائها حاخامات يهود ومنهم الحاخام ميفي إسحاق الذي نشرت الجريدة صورة له والشرطة الفيدرالية تقتاده إلى السجن. هذه الحادثة الفظيعة ولأنها تخص حاخامات مرت مرور الكرام في الصحافة الغربية لأن مصدرها الولايات المتحدة حيث لجماعات الضغط اليهودية من التأثير ما يخشاه الرئيس الأمريكي ذاته. ولكن لنستخدم أسلوب دونالد بوسترم على سبيل المحاججة فقط ونقول ماذا كان سيحدث لو أن المتورطين أئمة عرب مسلمون؟وأفتون بلادت ليست جريدة شهيرة على مستوى العالم رغم أنها توزع نحو مليون وستمائة ألف نسخة في السويد وموقعها الإلكتروني من أكثر المواقع الإعلامية زيارة في أوروبا. وحال صدور المقال تلقفه المدونون وأوصلوه إلى أبعد نقطة في العالم بلحظات وأثاره إسرائيليون معارضون لسياسة دولتهم على مواقعهم.
وسرعان ما أصبح الموضوع مادة دسمة للصحافة العالمية ولا سيما التي لا تتجرأ حتى إلى الوصول بالقرب من الخطوط الحمراء عند تناول أوامر حساسة تتعلق بإسرائيل. والسبب في ذلك واضح. إن كانت لا تستطيع الكتابة في هذه الأمور حتى وإن رأتها صحيحة مائة في المائة, فإنها تستطيع الآن كون المصدر سويديا.
وانتشر الخبر في السويد والدول الإسكندنافية مثل النار في الهشيم وصار مادة للنقاش على المستوى الشعبي لأيام عديدة. ولم تنحن الجريدة أمام الضغط الإسرائيلي لا بل أعقبت المقال بتقارير أخرى وتحليلات تدور حوله.
ولم تعر الصحيفة ولا دولة السويد اهتماما لصيحات الغضب الإسرائيلية لأن البيئة السويدية تقفل الباب أمام أي محاولة للجم حرية التعبير والكتابة إلا ما ندر ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالتشهير والذي له معاييرقاسية يجب معاينتها أولا كي تقبل المحاكم السويدية النظر فيه.
وبدأ الناس يسخرون من عنجهية المسؤوليين الإسرائيليين الذين طالبوا السويد بالاعتذار. وهناك سابقة في السويد خسرت وزيرة منصبها لأنها تدخلت في شؤون الصحافة وصار ذلك درسا للحكومات المتعاقبة.
واستدعت السويد سفيرتها في إسرائيل لأنها وبخت وأدانت الصحيفة وأعتذرت عن نشر المقال. واضطر وزير الخارجية كارل بلد أن يؤنب السفيرة ويذكرها بأن الدستور السويدي لا يسمح لأي مسؤول حكومي بأن يعبّر عن رأيه رسميا عن مقال في جريدة.
ودونالد بوسترم كاتب وصحافي حر ساهم بكتاباته في خلق رؤية سويدية تدعم النضال الفلسطيني العادل ضد الاحتلال الإسرائيلي وكذلك ساهم كثيرا في تفهم واستيعاب السويديين للقضايا العربية الإسلامية. وكعادتها قذفت إسرائيل تهمة اللاسامية في وجه الصحيفة وأثارت كراهية الغرب «المسيحي» لليهود في القرون الوسطى وما بعدها حيث كان المسيحيون الغربيون يتهمون اليهود بسرقة أطفالهم وأكل لحومها. ولكن كل هذا لم ينطل على السويد وجريدة أفتون بلادت التي قلما خلا أي عدد لها من مقال أو مقالين ولمدة أسبوعين تدحض فيهما الادعاءات الإسرائلية. ومما قالته: « موقف إسرائيل مبني على عوامل سياسية وليس أخلاقية ... الحكومة الإسرائيلية الحالية أكثر الحكومات يمينية في إسرائيل ... وكي يعوض كل من نتنياهو وليبرمان عن الفتور الذي يستقبلهما به العالم حتى في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فإنهما يحاولان خلق عدو خارجي ويظهران لشعبهما أنهما يملكان المقدرة على الرد على مزاعم اللاسامية».
وكانت فرصة ذهبية لدونالد بوسترم لإشاعة ونشر أفكاره ومواقفه خارج السويد حيث أصبحت مقابلته بمثابة سبق صحافي للإعلام في العالم. فظهر على شاشة شبكة س إن إن الإخبارية وعلى شاسة بي بي سي ومواقع إعلامية أخرى كثيرة.وشخصيا أشكر أفتون بلادت والكاتب المبدع دونالد بوسترم لأنهما أيقظا اهتماما محليا وعالميا متزايدا في المؤتمر الدولي الذي تنظمه جامعتنا في مستهل أكتوبر لمناقشة الكتاب الذي أصدرته أخيرا عن استراتيجيات السلطة في تغطية أخبار الشرق الأوسط.
وستحضر أفتون بلادت المؤتمر إضافة إلى مجموعة منتقاة من كبار المحررين في سي إن إن وبي بي سي وكبار المختصين في إعلام الشرق الأوسط. ومما يحز في قلبي أنه ليس بينهم عربي واحد.
هذا هو سوق عكاظ السويدي الذي أهمله العرب وتلقفه بلد الفايكنغ (القراصنة) الذين كانو يعيشون في الكهوف عندما كان قس بن ساعدة يلقي خطبته الشهيرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي