حل مشاكل المياه في القطاع الصناعي .. التجربة الناجحة للمسؤولية

حل مشاكل المياه في القطاع الصناعي .. التجربة الناجحة للمسؤولية

لو حاولنا أن نقوم بعملية تنزيل لمبادئ و معايير المسؤولية الاجتماعية للشركات، ومدى ما يمكن أن تساهم به في عملية التنمية المستدامة، سنجد أن هذه المبادئ يمكن أن تتُرجم في أعمال على أرض الواقع في شكل مشاريع ملموسة النتائج. ذلك أن مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات لم يعد – كما كان في الماضي – مجرد شعار أخلاقي ، عن واجبات أخلاقية واجتماعية لهذه الشركات تجاه مجتمعاتها.

القطرة الغالية كمعيار لنأخذ مثالا ً بسيطا ً في قطاع محدد هو القطاع الصناعي، نحن نعرف ونعلم جيداً أن هذه المصانع التي تعمل ليلا ً ونهارا ً في إنتاج مختلف المنتجات، إنما تعمل وتدار من خلال رجال ونساء يبذلون أقصى طاقاتهم، فما العجب إذا ما قلنا – وفقاً لمنطق المسؤولية الاجتماعية – أن لإدارات هذه المصانع واجبا تجاه هؤلاء العاملين – ليل نهار – من أجل أن ينتجوا لنا حاجاتنا الحياتية ؟!
لا عجب في ذلك ؟!
إذ إن هذا من أهم واجبات هذه المصانع تجاه العاملين فيها .. إذ يجب أن توفر لهم الحماية، وأن تتخذ كافة إجراءات السلامة التي تضمن أرواحهم وسلامة أجسادهم. ورغم أن هذه المسؤولية تشكل حجر الزاوية في ممارسات القطاع الصناعي، إلا أنها تمثل – من ناحية أخرى – وجها ً واحدا ً من أوجه عديدة من المسؤولية الاجتماعية لهذا القطاع.

اختلال الموازنة المائية النظرة الشمولية تبدو هنا لأزمة ولا غنى عنها. لأنك حين تلتفت للناحية الأخرى من هذه المسؤولية ستجد أمامك مباشرة مسؤولية هذه المصانع عن الموارد الطبيعية والآثار الجانبية لنشاطاتها على البيئة التي تحيط بها.
ولا يسعك سوى التساؤل عن هذه المسؤولية. وتستطيع أن تأخذ كمثال على هذا، الكيفية التي يتعامل بها القطاع الصناعي مع مورد من أهم موارد الحياة: ونعني المياه.
والواقع أنه من منطلق التنافسية المسؤولة على المصانع أن تولي هذا الجانب اهتماما ً خاصا ً في بلد مثل المملكة ويمكننا أن نحصر أسباب هذا الاهتمام في ثلاثة أسباب تدعو بالفعل إلى ضرورة مراقبة سلوك قطاع الصناعات في تعاطيه مع المياه.
السبب الأول يتمثل في حقيقة أن المملكة تعتبر من الدول العشر الأكثر فقرا في مصادر المياه العذبة في العالم، ولهذا السبب تعتبر الأكثر تشغيلا ً لمحطات التحلية في العالم إذ تنتج محطاتها أكثر من ثلث الإنتاج العالمي لمحطات التحلية. والمملكة في هذا ليست هي الدولة الوحيدة، إذ تقدر التقارير و الدراسات أن دول الخليج تعاني حالياً من عجز مائي يصل إلى نحو 15 مليار متر مكعب سنوي، متوقعة أن يصل الطلب فيها على المياه إلى أكثر من 32.5 مليار متر مكعب بحلول عام 2025 .
أما السبب الثاني فهو أن المملكة تعتبر الدولة الثالثة بعد الولايات المتحدة وكندا من حيث نصيب الفرد من المياه، وهذا التناقض بين الواقعتين هو الذي يسبب اختلال الموازنة المائية في المملكة الذي سيظل ثابتا، بل ويتفاقم عاما ً بعد عام، إذا ما نظرناً إلى الزيادة السكانية وارتفاع نسبة المواليد في المملكة سنويا.
أما ثالث هذه الأسباب فهو متعلق بصفة خاصة بقطاع الصناعات الذي نحن بصدده الآن. إذ إن المصانع تستهلك حسب التقارير المؤكدة ما يتراوح بين 15 و20 في المائة من كمية المياه المستهلكة، وبنسبة زيادة في الطلب تصل إلى 7 في المائة سنويا.

مبادرة من الطراز الأول
استشعارا للحاجة الملحة إلى نشر الوعي بضرورة ترشيد وتوفير استهلاك المياه في القطاع الصناعي أطلقت مبادرة "وفير" في شهر تشرين الثاني (أكتوبر) 2007 بالتعاون مع وزارة المياه والكهرباء، وبرعاية شركة أعمال المياه والطاقة العربية المحدودة (أكوا باور) كراع ماسي، وأكاديمية دار التقنية التابعة لمجموعة بوشناق ( الراعي الذهبي ). وهي خير مثال على الشراكة بين القطاعين العام والخاص ونموذج للشراكة بينهما وتندرج تحت أفضل ممارسات المسؤولية الاجتماعية للشركات إذ إنها مبتكرة (المبادرة الأولى من نوعها في القطاع الخاص) ومن صلب نشاط الشركات الداعمة.
وتتضمن المبادرة الخطوات التالية:
ـ تحديد واختيار ما بين 10 إلى 15 مصنعا لاختبار وتطبيق برنامج متكامل لترشيد المياه في المرافق الصناعية.
ـ تطبيق وسيلة تدقيق في الشركات المختارة لتحديد فرص توفير المياه وإعادة تدويرها.
ـ تطوير دراسة موضوعية ونشرات بناء على نتائج الدراسة الخاصة بالشركات المختارة.
ـ تدريب مهندسين محليين ومشاركين من الشركات الرائدة للحفاظ على أسلوب تدقيق المياه بطريقة مرجعية.
ـ تطوير موقع تعليمي للمدققين ومديري المرافق في إدارة المحافظة على المياه وتقنياتها.

وبذلك تكون المبادرة قدمت حلا لمشكلة محلية من خلال نشر الوعي, خلق الكوادر المحلية وبالتالي وقف هدر المياه في هذا القطاع.
ومع أن المبادرة انطلقت في جدة ولكن تمكن الفريق, ومن خلال تعاون أكثر من 12 مصنع ومن خلال ورش عمل وزيارات للمصانع من حصد مبكر للنتائج وذلك من خلال الأسلوب المنظم لتدقيق استهلاك المياه. وهناك عدة أمثلة قامت الشركات بتبنيها وهي إما وفرت لهم كمية من المياه وبالتالي خفض التكلفة كما في مصنعي "سادافكو" و"عافية العالمية".
كما سنحت المبادرة الفرصة للمصانع لتبادل الخبرات, والتشبيك, والتعاون من أجل تطوير ودعم هذا القطاع, مما يصب أولا وآخرا تحت إطار التنافسية المسؤولة.
وبناء على ما حققته المبادرة من نتائج إيجابية هناك توجه أكبر ما زال في طور الدراسة لتوسيع نطاق المبادرة وجعلها تصب في أكبر شريحة ممكنة من المصانع لتعطي نتائج أكثر أهمية.

الوعي ثم الوعي
لسنا هنا بصدد استعراض تجربة مبادرة "وفير" لترشيد المياه في قطاع الصناعات رغم أهميته، إلا أن ما يمكن التركيز عليه هنا هو مدى ما يمكن أن يقدمه تفعيل مؤشر التنافسية المسؤولة من حلول لمواجهة تحديات تنموية وطنية على هذه الدرجة من الخطورة. ويمكن أن نلخص هذا الدور في عملية الوعي بهذه المشكلة بين المسؤولين والعاملين في القطاع الصناعي، هذا الوعي الذي سيكون خير دافع لهم لاتباع القواعد والوسائل والأساليب الكفيلة بالحفاظ على المياه والحد من إهدارها، وترشيد استهلاكها، لأن هذا فيما أثبتته تجربة "وفير" يكفل تقليل كلفة الإنتاج، بما يصب في رصيد أرباح المصانع، كما أنه في الوقت ذاته يوفر على الدولة تكلفة توفير الرصيد اللازم من المياه الصالحة للاستخدام، الأمر الذي يستفيد منه الإنسان والمجتمع في الدولة، حين تتوافر له الكمية التي يحتاج إليها من المياه العذبة.