استراتيجية صناعية تليق بأوروبا «2 من 2»

إن الدافع الذي يحرك الحكومات في المقام الأول هو التوترات الجيوسياسية، فقد استحدثت كل من الولايات المتحدة والصين استراتيجيات صناعية رسمية تؤكد الحاجة إلى تزويد القطاعات التي تعد بالغة الأهمية للأمن القومي بالدعم. على هذا فإن المنافسة الصناعية بين القوى العظمى اليوم تشبه إلى حد كبير أوروبا القديمة التي مزقتها الحروب.
لكن ماذا عن السياسة الصناعية المعمول بها في عموم أوروبا؟ نشرت المفوضية الأوروبية أخيرا قائمة بالتكنولوجيات الحرجة. ولكن في تنفيذ سياسة صناعية على غرار تلك المعمول بها في الولايات المتحدة أو الصين، تواجه أوروبا مفارقة، فقد عملت الجهود التي بذلها الاتحاد الأوروبي لإنهاء استخدام السياسة الصناعية كأداة جيوسياسية بين الدول الأوروبية على الحد بدرجة كبيرة من الحيز المتاح للدول الأعضاء للاستجابة للسياسات الصناعية ذات الدوافع الجيوسياسية التي تنتهجها جهات أخرى.
من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي تعامل مع قطاعات تشهد انحدرا. ففي 1978، عندما كانت صناعة الصلب تناضل في مواجهة صعوبات، نفذت الجماعة الاقتصادية الأوروبية ما يسمى خطة دافينيون، التي حددت سقف الإنتاج في مختلف الدول الأوروبية بطريقة شبه تناسبية. لكن الاتحاد الأوروبي لم يحتضن قط سياسة صناعية نشطة، ويرجع هذا إلى سبب بسيط مفاده، أنه على النقيض من الصين أو الولايات المتحدة، لا يملك ميزانية فيدرالية يمكن من خلالها تزويد قطاعات بعينها بإعانات دعم كبيرة.
من المفهوم بالتالي أن تدعو أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية إلى إنشاء صندوق سيادي أوروبي جديد. لكن من المنطقي أيضا أن يكون القادة الوطنيون، الذين سيضطرون إلى تمويل هذا الصندوق، عازفين عن تسليم أموال دافعي الضرائب في دولهم إلى الاتحاد الأوروبي لتعزيز التنمية الصناعية في مكان آخر.
في غياب تمويل سياسة صناعية مشتركة على مستوى الاتحاد الأوروبي، تلجأ المفوضية الأوروبية إلى تخفيف القواعد التي تحكم مساعدات الدولة. على سبيل المثال، بموجب قانون الرقائق الإلكترونية الأوروبي، تستطيع المفوضية الموافقة على دعم وطني موجه لمصلحة مصانع أشباه الموصلات الكبرى. لكن هل تخلف قدرة الدول الأعضاء المكتشفة حديثا على دعم صناعات بعينها التأثير المرغوب؟ تتوقف الإجابة عن هذا السؤال على الجانب الذي تسانده في مناقشة السياسة الصناعية.
سيرحب بهذا النهج الذي يتبناه الاتحاد الأوروبي أولئك الذين يعتقدون أن الحكومات قادرة على تحديد القطاعات التي تتمتع بإمكانات النمو الإيجابي، خاصة أن المفوضية تحتفظ بالحق في تقييم ما إذا كانت أي مساعدة حكومية وطنية متناسبة ومعززة للكفاءة. من ناحية أخرى، يعتقد المتشككون أن الحكومات الوطنية من المرجح أن تمول "الشركات الوطنية الكبرى" أو المشاريع المريحة سياسيا، وأن البيروقراطيين في الاتحاد الأوروبي لا يمثلون الجهة الملائمة لتفكيك سلاسل العرض المعقدة وتحديد القطاعات التي تتمتع بالقدر الأعظم من الإمكانات.
تشير تجارب سابقة تسلط الضوء على سيطرة الشركات الوطنية الكبرى على الساسة إلى أن وجهة نظر المتشككين ربما تكون الأكثر واقعية. من ناحية أخرى، من الممكن أن تدور السياسة الصناعية، بل ينبغي لها أن تدور، حول ما يتجاوز كثيرا مجرد تزويد مؤسسات ضخمة بمليارات اليوروهات لتستخدمها في بناء مصانع التكنولوجيا الفائقة في الداخل. فمن شأن زيادة الإنفاق على مشاريع البحث والتطوير أن تعمل على تزويد صناعة التكنولوجيا الفائقة في عموم الأمر بقاعدة أقوى.
لا يزال من الممكن استهداف وتوجيه هذا الدعم غير المباشر. على سبيل المثال، ستستفيد صناعة الرقائق الإلكترونية الدقيقة من إنشاء مدارس فنية متخصصة ودعم الخبرات المحلية في العناصر الأساسية التي تدخل في عملية صنع الرقائق الإلكترونية. الواقع أن هذا النهج يعد استراتيجية أكثر من كونه سياسة، ومن المرجح أن يعود بقدر أعظم كثيرا من النفع على أوروبا مقارنة بضخ الأموال العامة إلى قلة من المصانع الضخمة.
خاص بـ "الاقتصادية"
بروجيكت سنديكيت، 2023.

المزيد من مقالات الرأي