Author

استمرار الطلب على الدولار

|

كثر الحديث أخيرا حول عزم عديد من الأطراف على التخلي عن الدولار، كعملة مهيمنة على التعاملات المالية العالمية. ومع كل مقترحات وقرارات التبادل بوسائط أخرى غير الدولار، لا تتوافر حتى الآن أي مؤشرات حقيقية على تراجع أو انحسار استعمال الدولار على المستويات العالمية. وما زالت بيانات صافي التدفقات الرأسمالية إلى الولايات المتحدة تشير إلى استمرار تسجيلها أرقاما إيجابية. ووصل صافي التدفقات إلى نحو 140 مليار دولار في شهر يوليو الماضي، الجزء الأكبر منها أموال خاصة. وعموما سجل صافي التدفقات مؤشرات إيجابية على الأمد الطويل، وفي معظم الفترات الماضية. ويمكن صافي التدفقات الرأسمالية الإيجابية الولايات المتحدة من الاستمرار في تحمل عجوزات تجارية ومالية ضخمة، والحفاظ على سعر الدولار قويا، والحصول على التمويل الرخيص. وتدعم التدفقات الرأسمالية الهائلة إلى الولايات المتحدة، وهيمنة الدولار على التعاملات التجارية والمالية وحتى الشخصية العملة الأمريكية وترفع الطلب عليها. وتتدفق الأموال الأجنبية إلى قطاعات أمريكية متعددة من أبرزها أسواق السندات الأمريكية الحكومية والخاصة، وأسواق المال، والمصارف، والاستثمارات المباشرة في الشركات والعقارات.
حفز توالي رفع الفائدة على الدولار خلال العامين الماضيين الطلب عليه. وتشير بيانات شهر يوليو الماضي إلى ارتفاع مقتنيات الأجانب من السندات الحكومية الأمريكية إلى ما يقارب 7.7 تريليون دولار، بنسبة زيادة سنوية تصل إلى 2.2 في المائة. واحتلت اليابان المركز الأول في مقتنيات سندات الحكومة الأمريكية بما يزيد قليلا على 1.1 تريليون دولار. وجاءت الصين في المركز الثاني بنحو 822 مليار دولار، لكن إذا أضيفت إليها هونج كونج تجاوزت مقتنياتها تريليون دولار. وقد تراجعت قليلا ملكية الصين من السندات في شهر يوليو لما يعتقد أنه محاولة للدفاع عن اليوان الضعيف في تلك الفترة.
الجزء الأكبر من السندات الأمريكية تملكه مؤسسات رسمية أجنبية معظمها مصارف مركزية. وتظهر المملكة سادسا بإجمالي مقتنيات سندات حكومية أمريكية تتجاوز 109 مليارات دولار، لكن الرقم الحقيقي أكبر من ذلك، حيث تملك سندات عبر أطراف ثالثة "كمصارف دولية" تستثمر في السندات الأمريكية. كان العائد على سندات "عشرة أعوام" قد انحدر إلى نحو 0.3 في المائة في بداية 2020، لكنه بدأ يرتفع بشكل لافت بعد سلسلة زيادة الفائدة الأساسية حتى تجاوز في الآونة الأخيرة 4.8 في المائة، ما عزز جاذبية السندات الأمريكية للمستثمرين.
يصل إجمالي موجودات المصارف المركزية العالمية من الأصول الأجنبية "بكل العملات" إلى ما يقارب 12 تريليون دولار. واحتلت الصين المركز الأول بنحو ثلاثة تريليونات دولار، وأتت بعدها اليابان بنحو 1.2 تريليون دولار، ثم سويسرا وتايوان والهند. وتحتل المملكة المركز السادس عالميا بإجمالي قيمة أصول أجنبية بلغت نحو 460 مليار دولار.
تسعى المصارف المركزية إلى الاحتفاظ باحتياطياتها في أسواق مالية ضخمة ومفتوحة يمكن الوصول إليها عند الحاجة وتسييل موجوداتها في وقت سريع. تعد سوق سندات الخزينة الأمريكية أضخم سوق والأسرع تسييلا والأسهل في عمليات التبادل من أي سوق سندات أخرى. لهذا كونت أصول الدولار أغلب الموجودات الأجنبية للمصارف المركزية حول العالم، أو ما يقارب 59 في المائة من إجمالي أصولها في الربع الثاني 2023. وأتى اليورو في المركز الثاني بنحو 20 في المائة، ثم الين الياباني بنحو 5.3 في المائة، ثم الجنيه الاسترليني بنحو 4.8 في المائة، ثم الرنمينبي الصيني بنحو 2.5 في المائة. وكانت حصة الاحتياطيات الدولارية نحو 71 في المائة قبل ظهور اليورو 1999 ثم تراجعت بعد إصداره. لكن بعد عدة أعوام من ولادة اليورو ظلت نسبة الدولار شبه مستقرة خصوصا في الأعوام القليلة الماضية.
استفادت الولايات المتحدة كثيرا من وضع الدولار كعملة مهيمنة، حيث مكنها ذلك من الاستدانة بتكاليف منخفضة بسبب ارتفاع الطلب على الدولار، وقبوله بشكل واسع أكثر من أي عمله أخرى، ورغبة العالم في الاحتفاظ به. وقد يقف انخفاض تكاليف الائتمان خلف عدم اكتراث الولايات المتحدة كثيرا بحجم العجوزات المالية والتجارية، خصوصا مع استمرار استعداد العالم لشراء أدوات الدين الأمريكي. وقد رفع هذا قدرات الحكومة الأمريكية على زيادة إنفاقها، وتنفيذ سياساتها بسهولة أكبر، وتمتعها بتأثير أقوى عالميا. كما انخفضت الفوائد المدفوعة على الدين الأمريكي وداخل الولايات المتحدة، ما مكنها من تخصيص موارد أقل لخدمة دينها القومي، وخفض تكاليف ديون قطاعها الخاص ومواطنيها.
ساعدت هيمنة الدولار على تحسين جودة معيشة الشعب الأمريكي، حيث رفعت قيمة الدولار عالميا، ما خفض تكاليف الواردات الأمريكية من سلع وخدمات بما في ذلك السفر خارج الولايات المتحدة. وشجع هذا الاستيراد ورفع العجوزات التجارية الأمريكية إلى مستويات قياسية نظرا لعدم حاجة الولايات المتحدة إلى استخدام عملات غير الدولار، الذي يمكن طباعته محليا. في الجانب المقابل أضرت قوة الدولار نسبيا بالصناعات والصادرات الأمريكية ورفعت أسعارها، ما حفزها للانتقال خارج الولايات المتحدة.
لقد منحت قوة وهيمنة الدولار على مسرح التجارة وتدفقات رؤوس الأموال قوة سياسية واقتصادية هائلة للولايات المتحدة، ومكنتها من فرض عقوبات مؤلمة على الدول المناهضة لها. وساعدها هذا كثيراعلى توسيع نفوذها وزيادة وزنها الاقتصادي وقواها التفاوضية عبر العالم، ومكنها من الحصول على منافع لا تحظى بها أي دولة أخرى.

إنشرها