دعم الفقراء قوة استراتيجية للدول

الفقر ببساطة هو الحالة التي تنشأ عن عجز الإنسان عن الوفاء باحتياجاته الأساسية. والفقر ظاهرة اقتصادية اجتماعية منتشرة بدرجات متفاوتة في دول العالم كافة. والفرق بين دول العالم ليس في وجود الفقر من عدمه، لكن يتركز في حدة الفقر ومدى انتشاره. ويظهر الفقر على مستويي الدول والأفراد. ففي الدول يتحدد الفقر بحجم النشاط الاقتصادي وقدرات توفير الموارد من أجل التنمية البشرية، كالتعليم والصحة والتنمية المادية المتمثلة في تنفيذ البنية الأساسية، كالطرق والموانئ وشبكات الاتصال. أما على المستوى الأسري أو الفردي، فالفقر يعني انخفاض دخول وثروات الأسر أو الأفراد عن مستوى يؤمن لهم الحاجات الأساسية لمعيشة كريمة.
تتبلور بشكل متزايد وجهة نظر عالمية تربط الفقر بحقوق الإنسان، فقد يقود الفقر إلى إهدار الكرامة الإنسانية والإهمال والإقصاء والتهميش. وعبر نلسون مانديلا عن الحالة المزرية التي يجد الفقراء أنفسهم فيها عندما وصف الفقر، بأنه "الوجه الحديث للعبودية". بدأ ربط الفقر بحقوق الإنسان بصورة تدريجية منذ صدور المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 التي تنص على أن "لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة ظروف خارجة عن إرادته". وتعاقبت بعد ذلك النصوص والقرارات الداعية إلى القضاء على الفقر بنسق متسارع، وتم إدراجها ضمن برامج المؤتمرات العالمية. ومن أشهر هذه المؤتمرات قمة الألفية في 2000، التي نظمتها الأمم المتحدة في مدينة نيويورك وحضرها معظم قادة العالم. وتبنت القمة ثماني غايات تنموية كانت أولاها القضاء على الفقر المدقع والجوع.
تقسم المعايير العالمية بدرجة رئيسة الفقر الاقتصادي إلى فقر نسبي وفقر مدقع. والفقر المدقع أشد قساوة من النسبي، حيث يصف حالة البشر العاجزين عن تأمين غذاء صحي وكاف. وهناك أكثر من مليار إنسان يعيشون حالة الفقر المدقع وازدادت أعدادهم بعد أزمة كورونا. أما الفقر النسبي، فيتضمن إضافة احتياجات الإنسان الأساسية الأخرى كالسكن الصحي. وتوجد تصنيفات متعددة للفقر، فهناك الفقر الظرفي الذي ينشأ عن ظرف طارئ كالبطالة أو المرض أو الطلاق أو التفكك الأسري والكوارث أو أي ظروف أخرى طارئة. ويوجد أيضا الفقر الطبقي الذي ينشأ عن المعيشة في أسر أو مجتمعات فقيرة لأجيال عديدة. وتوجد تصنيفات أخرى، كالفقر الحضري والريفي، أو الناشئ عن الإقصاء الاجتماعي لشريحة سكانية معينة.
يمكن أن يساعد تصنيف الفقر على أساس الاحتياجات الأساسية الاستهلاكية للإنسان في التصدي للفقر، بحيث يكون هناك فقر غذائي وفقر عقاري وفقر صحي وهلم جرا. فاستهداف كل نوع من أنواع الفقر الاستهلاكي قد يكون أجدى من وضع سياسات عامة للتصدي للفقر. فعجز الإنسان عن تأمين قوت كاف وصحي له وأسرته يتطلب سياسات محددة تستهدف تمكين الشرائح السكانية المعدمة من الحصول عليه. من جانب آخر، لا تقل حاجة الإنسان إلى المأوى الصحي عن حاجته إلى الغذاء، لهذا ينبغي التصدي لما يمكن تسميته الفقر العقاري. ويمكن تعريف الفقر العقاري بعجز الإنسان عن تأمين مأوى يفي باحتياجات السكن الأساسية. وينشأ الفقر العقاري إما عن عدم ملكية سكن مناسب وإما العجز عن سداد إيجار السكن أو استحواذ تكاليف السكن على معظم الدخل.
تمثل الثروة العقارية معظم وربما أكثر من 80 في المائة من ثروات الشرائح السكانية المتوسطة ومنخفضة الدخل. لهذا فإن عدم ملكية مسكن يضع الفرد أو الأسرة في الأغلب في وضعية فقر الثروة. ونادرا ما يقوم الأفراد والأسر بجمع ثروات أخرى قبل الحصول على سكن. ويلجأ الأفراد والأسر إلى الإيجار في حالة العجز عن التملك، وقد تستأثر تكاليف الإيجارات بجزء كبير من الدخل، ما يخفض قدرة الأسر على الوفاء بالتزاماتها الأخرى. لهذا فإن تجاوز تكاليف الإيجار أو السكن نسبة معينة من دخول الأسر مثلا 50 في المائة، قد يكون مؤشرا من مؤشرات الفقر العقاري. أما العجز عن سداد تكاليف الإيجار، فإنه يضع الأسر والأفراد في حالة فقر عقاري مدقع، ويؤخر تكوين الأسر، ويهدد الاستقرار النفسي والاجتماعي للأفراد، كما يحصل للمشردين واللاجئين.
الارتفاع المتسارع في أسعار المساكن وتكاليف الإيجارات فوق معدلات نمو الأجور يرفع بدرجة كبيرة من تكاليف السكن، ويهدد أعدادا بشرية متزايدة من الدخول في دائرة الفقر العقاري. وهذا يتطلب، وبلا شك، تدخل السياسات العامة في دعم وتوفير السكن بدرجة أكثر فاعلية، خصوصا للشرائح السكانية الأكثر احتياجا، وكذلك تحديد ماهية الفقر العقاري من خلال توافقات قانونية واجتماعية معينة. ويتوافر عديد من تجارب دول العالم في توفير المساكن أو دعم الحصول عليها، وبعضها يعاني أضرارا جانبية، لكن يتصف عدد منها بالنجاح وتلافي عيوب الإسكان العام التي يمكن التطرق إلى بعضها في مقالات مقبلة.
إن دعم الفقراء وتحسين أوضاع الشرائح الاجتماعية الأقل حظا ليس واجبا إنسانيا ونبيلا ومطلبا من متطلبات العدالة الإنسانية فقط، وإنما يسهم في رفع معدلات النمو، ودعم النهضة الاقتصادية والقوة الاستراتيجية للدول، حيث يفجر طاقات الفقراء وأبنائهم في المستقبل، ويدعم الأمن والسلام الاجتماعي داخل الدول، ويرفع مستويات الاستهلاك والاستثمار المادي والبشري.

المزيد من الرأي