العالم الحر لا يؤمن بحرية التجارة

بعد فشل المنظمات الدولية في كبح جماح تيارات العولمة الجارفة وجسر الهوة المتفاقمة بين الدول المتقدمة والنامية، ارتفعت سقوف الالتزامات الملقاة على عاتق الدول النامية والمثقلة بالأحكام والقواعد الصارمة لتشكل عبئا قاسيا على نمو اقتصاداتها.
ولقد جاء هذا الفشل ليثبت عكس الاعتقاد الخاطئ السائد لدى معظم شعوب الأرض، بأن الدول المتقدمة الملقبة بدول العالم الحر كانت وما زالت من أشد الدول المناهضة للعولمة وحرية التجارة. ولقد سجل التاريخ منذ القرن الـ18 سعي هذه الدول الدؤوب في سوء استغلال أحكام العولمة لحماية أسواقها من المنافسة وتكديس المعادن الثمينة الناتجة عن فائض صادراتها لعلاج العجز في ميزان مدفوعاتها.
لذا لم يكن مستغربا على الإدارة الأمريكية الحالية إلغاء اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، وكيل المديح لبريطانيا على خروجها من الاتحاد الأوروبي، والانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، وإجبار المكسيك وكندا على إعادة صياغة اتفاقية "نافتا"، وأخيرا فرض الرسوم الجمركية المرتفعة على المنتجات الصينية، والتهديد بإعادة فرضها على منتجات الحديد والألمنيوم الواردة من البرازيل والأرجنتين.
وما أشبه الليلة بالبارحة عندما فوجئ الحلفاء الأوروبيون المنتصرون في الحرب العالمية الثانية برفض الكونجرس الأمريكي المصادقة على ميثاق مؤتمر "هافانا" الذي دعا إليه المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة بهدف تحرير التبادل التجاري بين دول العالم. وكانت حجة أمريكا آنذاك عدم تماشي هذا الميثاق مع مصالحها الوطنية لخشيتها من استباحة الدول الأخرى لأسواقها الواعدة، واستنزاف خيراتها والتسلط على ثرواتها، حيث كانت أمريكا تمتلك في ذلك الوقت 80 في المائة من مخزون الذهب العالمي و90 في المائة من الاستثمارات الدولية، وتنعم بنحو 50 في المائة من الإنتاج العالمي للفحم و60 في المائة من الكهرباء و35 في المائة من النفط.
ولتعديل موقف أمريكا المناهض للتجارة الحرة دعا بعض الدول الأوروبية الجانب الأمريكي إلى عقد مؤتمر عالمي لمناقشة مبادئ اتفاقية تجارية بسيطة، تحتوي على 38 مادة قانونية، لتسهم في إقناع الكونجرس الأمريكي أن حرية التجارة تعد جزءا لا يتجزأ من الرأسمالية التي تنادي بها السياسة الأمريكية.
وبعد أسابيع من المداولات المكثفة نجح الجانب الأوروبي في الحصول على موافقة مبدئية من الجانب الأمريكي على هذه الاتفاقية البسيطة، وتم رفعها إلى الكونجرس الذي سارع بالموافقة عليها لكونها اتفاقية هزيلة و"خالية من الأنياب" كما وصفها الرئيس الأمريكي السابق في ذلك الوقت.
ونتيجة لذلك احتفل العالم بمدينة "جنيف" في 24 آذار (مارس) 1948 بولادة اتفاقية "الجات" التي أضيف لها لاحقا 27 اتفاقية أخرى لتتحول في الأول من كانون الثاني (يناير) 1995 إلى منظمة التجارة العالمية. وبذلك بدأت مسيرة العولمة بفتح الأسواق وتحرير التجارة وتخفيض الرسوم الجمركية بين الدول الأعضاء فيها، وترغيب الدول الأخرى في الانضمام إليها بهدف زيادة الثقة بهذا النظام التجاري العالمي الجديد.
ومع أن دول العالم الحر وعلى رأسهم الدول المتقدمة قامت بالتوقيع على تأسيس هذا النظام التجاري، إلا أنها تشكل اليوم الدول الأكثر إساءة لاستغلال اتفاقيات المنظمة لمصلحتها من خلال تطبيق سياساتها المشوهة للتجارة، مثل الدعم المحظور والحمائية غير النظامية وفرض الرسوم الجمركية الباهظة وتشجيع استخدام المواصفات والمقاييس كعوائق فنية أمام انسياب التجارة. وأدى ذلك إلى ارتفاع معدلات هذا الاستغلال السيئ إلى 20 في المائة في فرنسا وألمانيا، و40 في المائة في أمريكا وبريطانيا واليابان، و85 في المائة في روسيا، لتسهم السياسات المشوهة للتجارة في حجب المنافسة وتباطؤ النمو وتدهور العلاقات السياسية وزيادة وتيرة الحروب التجارية، لتطول أخيرا أمريكا والصين، صاحبتي أكبر اقتصادين في العالم.
وهكذا أصبحت الحروب التجارية والتدهور المستمر للبيئة نتيجة حتمية لنمط السياسات الحمائية والاستهلاك غير المستدام المتبع في دول العالم الحر، ما أدى إلى صدور تحذير البنك الدولي في الأسبوع الماضي من أن الاقتصاد العالمي بدأ الدخول في مرحلة الخطر لفشل دول العالم الحر في تحقيق التقدم المنشود ورأب فجوة تباعد مواقفها مع الدول النامية.
ولقد جاء هذا الفشل بالتزامن مع تفاقم مشكلات الاقتصاد العالمي المؤرقة لشعوب الأرض قاطبة، التي تنحصر في رفض الدول المتقدمة تقليص سيطرتها على 89 في المائة من تجارة العالم، وتخفيض تحكمها في 90 في المائة من حركة رؤوس الأموال و92 في المائة من خدمات الاتصالات وتقنية المعلومات. كما أنه ما زالت الدول المتقدمة، بقيادة أمريكا وكندا وأوروبا واليابان، تراوغ في إلغاء كل أشكال الدعم الزراعي المشوه للتجارة، التي فاقت قيمتها في هذه الدول 300 مليار دولار سنويا، بينما تطالب الدول النامية بإضافة أعباء جديدة وإرغامها على الالتزام باتفاقيات جديدة تشمل تطبيق المعايير البيئية وقواعد العمل والعمال واستخدام التجارة الإلكترونية والمؤشرات الجغرافية.
لقد حان الوقت كي تقتنع دول العالم الحر بأن أحكام العولمة لا تخولها استباحة مبادئ الحرية الاقتصادية على حساب العدالة في تحرير الأسواق التجارية، ولا تمنحها حق استنزاف خيرات العالم لانتشال أنقاض سياساتها المالية. كما حان الوقت لتقوم الدول المتقدمة بفتح مزيد من أسواقها أمام تجارة الدول النامية بدلا من عرقلة انسيابها عبر الحدود بالعوائق الفنية والرسوم الحمائية حتى لا تتفاقم أسعار المنتجات الأساسية والغذائية والدوائية.
من واجب المنظمات الدولية، المسؤولة عن تنفيذ أحكام العولمة، أن تكشف الغطاء عن تجاوزات دول العالم الحر، التي لا تؤمن بحرية التجارة، ومطالبتهم بالتوقف فورا عن استخدام الممارسات الحمائية حتى لا نقف جميعا حائرين أمام مصداقية العولمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي