البراعة المتكيفة

ربما تضطر أن تتعلم في ثلاثة أشهر ما يمكن تعلمه عادة في عامين، هذا ما ذكرته الأسبوع الفائت في سياق النصائح الموجهة لمن يكثرون من التنقل الوظيفي. واستكمالا لهذه النصيحة، سيكون الأفضل أن نستعمل ما استوعبناه من معارف وتجارب بطريقة فعالة ومؤثرة. من ذلك: العمل على تطبيق مفهوم الخبرة التكيفية Adaptive Expertise، أو البراعة المتكيفة كما أود أن أطلق عليه، ويتحدث عن استخدام الخبرة بطريقة مرنة تعمل بشكل فعال بغض النظر عن الظروف التي نمارس فيها أعمالنا. عند البحث عن تكييف الإمكانات والمهارات حسب السياق سنجد عديدا من المفاهيم المرتبطة مثل التعلم التكيفي والسلوك التكيفي والقيادة التكيفية المرنة. في كثير من الأحيان يتم تنفيذ هذا الأسلوب المرن بشكل تلقائي لكن تحسين فهمنا له يعظم من قيمة المهارات والمعارف التي نكتسبها، ويجعل التصرفات أقرب للحكمة والنتائج متحسنة باستمرار.
لا تختص ممارسات الخبرة التكيفية بمن ينتقلون وظيفيا بشكل مستمر، فالمفهوم مهم للجميع. لأن الناس بطبيعتها تعمل في بيئة مستمرة التغييرات، فالسياق والأشخاص والظروف لا يكونون أبدا في حالة ثبات دائم، ولا بد من رفع مستوى العمل إلى درجة تستوعب هذا التغيير. وللتفريق بين الخبرة التكيفية والخبرة التقليدية "العادية"، نجد أن الأخيرة تختص بتعلم وممارسة المعارف والمهارات التي تمكن من إجادة القيام بالعمل نفسه بشكل متكرر، بينما تقوم الخبرة التكيفية على إدارة هذه المعارف والمهارات لإجادة القيام بأعمال تشابه العمل الأساس لكن في ظروف مختلفة، ربما تختلف للدرجة التي يصبح عندها هذا العمل مختلفا بالكامل. وتتطلب الاستفادة من هذا النوع من الخبرات ثلاث خطوات، منها: النظر في ماهية الأشياء ومسبباتها أثناء ممارستها لأول مرة، وهذا يجعلنا نعود مرة أخرى لموضوع التعلم المتعمد Deliberate Learning المهم جدا في تحسين جودة الخبرات التي نحصل عليها. ثانيا، نحسن من قدراتنا الذهنية لتصبح أكثر مرونة في التعامل مع التغيير، وتساعدنا على الوصول إلى صلب الحدث الذي يتطلب المعالجة، فالمشكلات تختلف من الخارج لكنها تتشابه كثيرا من الداخل. ثالثا، يستند نموذج الوصول إلى هذه الدرجة من البراعة في الممارسات على الابتكار ثم الكفاءة، وليس العكس. محاولة تحقيق الكفاءة قبل الابتكار تقيد تطوير وبناء هذا النوع من الخبرات، ولأن من يعالج المشكلات هنا شخص لديه القدرة على ابتكار الحلول في الظروف المختلفة، عليه أن يتمرن على بناء هذه الحلول المبتكرة، ثم يبدأ في تنفيذها بحثا عن الكفاءة والتأثير.
ولتصور هذا النوع من الخبرات وربطه بمحوري الكفاءة والابتكار، نجد أن من يستخدم خبرته في تحقيق الكفاءة ويتجاهل الابتكار هم المتقنون للأعمال الروتينية، وهم كثر. بينما على النقيض هناك من يبدع في الحلول الابتكارية لكنه يجد صعوبة في الالتزام بها بشكل كفء متكرر وثابت، وهؤلاء المستكشفون الذين يخرجون بحلول عظيمة لكنها لا تقوم بالتأثير المطلوب. وهناك طبعا من يفتقد القدرة الابتكارية والكفاءة، وهؤلاء هم ضعيفو الأداء الذين يجمعون بين ضعف الأسلوب وتدني المهارة. بينما من يجمع بطريقة مدروسة بين الابتكار والكفاءة سيصل إلى تحقيق مفهوم الخبرة التكيفية التي تستوعب الظروف وتصبح من الحكمة التي يمكن استخدامها في كثير من السياقات. أعتقد أن هذا ما يميز القادة الذين ينجحون في بيئات مختلفة أو يديرون أماكن تختلف بشكل كبير من الأماكن التي نالوا فيها خبراتهم وتأسيسهم المعرفي والمهاري.
ربط التفوق والنجاح باستمرار الخبرات في السياق أو المجال نفسيهما أمر لا أساس له من الصحة؛ نعم هناك تتابع مفيد للخبرات وهناك تتابعات لا تبني كثيرا أو لا تستكمل دائرة الخبرة المفيدة. كثيرا ما نرى الاستغراب عند إدارة مهندس لمستشفى بشكل ناجح، أو الانتقال الأفقي لتنفيذه ونجاحه في القيام بمهامه بشكل لافت. ما ينقل ويثبت القدرة على إعادة استخدام خلاصات التجارب هي المهارات الذهنية المرتبطة بالخبرة التكيفية، أي القدرة على بناء الخبرات وإعادة استخدامها بشكل سلس يساعد على تحقيق نتائج أفضل، وهذا أمر لا يحدث بمحض المصادفة، إذ ينبغي تطوير المهارات العقلية لتعمل وفق هذا الأسلوب، وينبغي تحسين مهارات التعلم لتصل إلى المسببات وآلية عمل الأشياء وقواعد التفاعلات التي تحصل في مثل هذه الظروف، وينبغي بلا شك تأطير المواقف وتحليلها بشكل جيد وواضح، ويمكن المعالج أو متخذ القرار من اتخاذ الخطوة السليمة في الوقت السليم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي