الفائدة في زمن الاضطراب الاقتصادي

كالعادة تلجأ دول عديدة هذه الأيام إلى الحفاظ على فائدة صفرية أو سالبة. والسبب تقليدي يعرفه الجميع، وهو تحفيز اقتصاداتها. والمرحلة التي يمر بها الاقتصاد العالمي حاليا أكثر من حساسة، لأنه يتجه "باتفاق أغلب الجهات الدولية" إلى ركود، وقد يكون ركودا طويلا، بينما يسود التوتر التجاري الساحة الدولية. وخفض الفائدة إلى مستويات متدنية في هذه الظروف يمثل في النهاية الأداة الوحيدة المتوافرة. وهي مشابهة إلى حد ما لأداة خفض العملات. فإذا كنت تريد أن ترفع من مستوى الصادرات في بلادك، ما عليك إلا خفض قيمة العملة الوطنية. وإذا أردت التحفيز ليس أمامك سوى خفض الفائدة، والأفضل أن توصلها إلى الصفر وما دونه.
بصرف النظر عن مدى استقلالية بعض البنوك المركزية "ولا سيما في البلدان المتقدمة" عن حكوماتها، فإنها عادة تتجنب المواجهة مع هذه الحكومات في مسألة الفائدة. ففي بريطانيا "مثلا" يتمتع بنك إنجلترا المركزي باستقلالية تامة عن المؤسسة السياسية، لكنه يتبع "كغيره من المصارف" سياسة الفائدة المنخفضة. أما في بلدان لا تتمتع فيها البنوك المركزية بهذه الاستقلالية، فالأمر يأتي من الحكومة في تحديد معدلات الفائدة، وإذا وجدت بعض المعارضة في ذلك، ما عليها إلا إقالة إدارة المصرف أو حاكمه. هذا ما حدث أخيرا في تركيا عندما اختلف حاكم البنك المركزي مع توجهات الرئيس رجب طيب أردوغان. فهذا الأخير أراد أن تكون الفائدة عند أدنى مستوى، في حين وجد حاكم المصرف آنذاك صعوبة في الأمر لأن ذلك سينعكس بصورة سيئة جدا على وضعية الاقتصاد المتدهورة أصلا.
كان هناك 24 بنكا مركزيا تطبق معدلات فائدة سلبية على الودائع في المصارف التجارية. جميع هذه المصارف أوروبية في حين أن بعضها يفرض فائدة صفرية، بل هناك أربعة مصارف تطبق فائدة سالبة. بالطبع تسعى هذه المصارف إلى الوصول لصيغة تخطط لها، وهي رفع مستوى الإقراض، ودفع المودعين لسحب أموالهم وضخها في الاقتصاد الوطني. لكن على الرغم من أن هذه الآلية تحقق بعض أهدافها بالفعل، إلا أن لها مخاطر كبيرة تتعلق بالإفراط في الإقراض. وعلينا ألا ننسى أن السبب الرئيس لانفجار الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 كان الإقراض غير المنضبط أو المفرط. أي أن القروض تمنح بأقل ضمانات ممكنة خصوصا على مستوى الأفراد.
لكن المشكلة أيضا تكمن في إقراض بعض الشركات التي تعاني أزمات إنتاج أو تحقيق أرباح، ما يجعل المخاطر عالية. لكن في النهاية لا تقف عادة حكومة ضد أي فائدة منخفضة، ليس لأنها تسعى إلى تحريك الاقتصاد، بل لأنها أيضا تحقق مكاسب شعبية توفر لها أصواتا انتخابية تحتاج إليها في الوقت المناسب. هنا تكمن مصيبة الفائدة المنخفضة أو الصفرية أو السالبة. من هنا وجد بعض البلدان ضرورة حتمية لمنح البنوك المركزية فيها الاستقلالية عن القرار السياسي. المهم الآن أن الاقتصاد العالمي يحتاج بالفعل إلى فوائد منخفضة، خصوصا في ظل تصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وبروز معارك تجارية مرشحة للوصول إلى حالة الحرب قبل نهاية العام الجاري. فالركود يبدو مقبلا بصورة أو بأخرى، إذا لم تتوصل البلدان الكبرى المحورية إلى آلية تفاهم فيما بينها. فالخلافات التجارية الكبيرة هذه أثرت مباشرة في اقتصادات الدول المتعاركة نفسها. ولهذه الأسباب وغيرها، قد تنضم بنوك مركزية أخرى في العالم إلى سياسة الفائدة الصفرية أو السالبة لاحقا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي