كيفية تعامل الشركات مع بيانات العملاء

حان الوقت لنعود إلى أرض الواقع عقب الإثارة التي تسبب فيها نجاح العالم الرقمي في تسهيل حياتنا اليومية، من خلال المساعدين الافتراضيين وعديد من الأدوات والخدمات الأخرى. فبعد المرحلة الذهبية التي عشناها، باتت السرعة الفائقة للتطور الرقمي توجد المخاوف بشكل متزايد. حيث أصبح الحفاظ على حقوق الخصوصية وتنامي نفوذ عمالقة شركات التكنولوجيا الرقمية، من أكثر المواضيع التي تشغل المجتمع.
انتبه السياسيون في أوروبا لخطورة الموضوع. فبعد صدور قانون مبدئي في هولندا، ينص على الحد من ملفات الكوكيز، التي تقوم بعض الشركات بتحميلها على القرص الصلب بجهاز المستخدم، والتي تقوم بجمع بعض المعلومات، من المقرر أن يقوم الاتحاد الأوروبي بتنفيذ لائحة حماية البيانات العامة، ما يوفر للمواطنين في أوروبا مزيدا من الشفافية وخاصية حماية بياناتهم.
يتم التعامل بحسم مع أنشطة الشركات الخمس الكبرى بما فيها "جوجل" و"فيسبوك"، فيما يتعلق بسوء استخدام بيانات العملاء على عدة أصعدة، بما في ذلك قوة السوق وتسديد الضرائب ونشر الأخبار. ما دعا الاتحاد الأوروبي إلى استجوابهم وفرض غرامات عليهم، كما مثل عديد من التنفيذيين أمام الكونجرس في الولايات المتحدة.
نأمل في ظل هذه الإجراءات الوصول إلى المدى غير البعيد، إلى عالم يتيح لنا إمكانية التحكم في بياناتنا الخاصة، وأن يتم استخدامها بشكل أفضل، وذلك ضمن بيئة من المنافسة الرقمية العادلة، بدلا من الاعتماد على عمالقة الإنترنت لتحديد ما هو الأفضل. غير أن هذا كله يعد مجرد بداية، فإلى جانب قضية الخصوصية والقوة السوقية التي تتحكم فيها الشركات الخمس العملاقة، يوجد ثلاث معضلات أخلاقية أخرى تتعلق بالتكنولوجيا الرقمية، بالكاد تم التطرق إليها حتى الآن، وينبغي للمؤسسات أخذها على محمل الجد في حال رغبت في تجنب الوقوع في أزمة ثقة. السؤال الذي يطرح نفسه أولا: إلى أي مدى يمكن أن تتمادى الشركات عند شرائها للبيانات؟ على سبيل المثال، تقوم بعض شركات تأمين السيارات بتقديم خصومات على رسومها في حال قام عملاؤها بتزويدها بمعلومات حول سلوكهم في القيادة أو بيانات تحركاتهم. ففي المملكة المتحدة مثلا، يمكن للسائقين تثبيت جهاز تتبع الحركة في سياراتهم، ليقوم بتسجيل بيانات حول سلوكهم في القيادة، مقابل تخفيض أقساط التأمين. للوهلة الأولى تبدو هذه الصفقة عادلة، حيث يترتب على السائقين المتهورين دفع مزيد من المال. ولكن يعني ذلك أن الأشخاص من ذوي الدخل المحدود مجبرون لأسباب اقتصادية على مشاركة حياتهم الرقمية بأكملها، لقاء الحصول على خصومات أو خدمات مجانية. عدا عن ذلك يمكن للخصوصية الرقمية أن تصبح مقتصرة على طبقة الأغنياء، كونهم الشريحة الوحيدة القادرة على تحمل أقساط تأمين أعلى ومخالفات سرعة مكلفة.
أما المعضلة الثانية فهي إلى أي مدى ستختلف المعاملة مع الآخرين في حال كانت معلوماتهم الرقمية أكثر دقة؟ هل سيبقى الأشخاص الذين تعاني عائلاتهم أمراضا وراثية، قادرين للحصول على تأمين صحي أو تأمين على الحياة؟ هل ستفرض أسعار أعلى على العملاء الذين لديهم قدرة أقل على فهم العرض المطروح؟ يعد تضامننا مع الآخر من دعائم المجتمع الحديث، ومن المرجح أن يحدث خلل في حال امتلاكنا رؤية واضحة حيال المخاطر المعروفة لكل فرد، ما سيكون له آثار خطيرة على الأشخاص الأقل حظا.
المعضلة الثالثة: إلى أي حد يعد استخدام البيانات للتأثير في سلوك الآخرين أمرا مقبولا؟ فنحن بالفعل معتادون على رؤية الإعلانات الملائمة لنا، وذلك بفضل عملية الاستهداف المحدد أو النشاط التسويقي الموجه، الذي يزيد بشكل كبير من احتمال القيام بعملية الشراء. مثال آخر على ذلك طريقة عرض "نتفليكس" للحلقات. يبقى النقاش حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا اليومية مجرد بداية. كما أن نوعية الأخبار التي نتعرض لها يمكن بسهولة التلاعب فيها، كما أظهرت المناقشات الأخيرة في هذا الإطار حول "الأخبار الوهمية" وما يسمى"فقاعة التصفية" وهي ظاهرة تنبؤ المواقع الإلكترونية بالمعلومات التي يرغب المستخدم في إيجادها وإقصاء المعلومات التي لا تتناسب مع رغبته. كل هذه التوصيات والإغراءات التي فرضت علينا تقوم على معرفة عميقة بمحفزاتنا اللاإرادية، وبالتالي تسلب منا بصورة متزايدة الإرادة الحرة في الاختيار.
يكاد يكون من المستحيل للشركات عدم المشاركة في السباق القذر لجمع البيانات. فالشركات التي تحترم ذاتها يجب أن تكون لديها استراتيجية مدروسة لتحفيز العملاء على مشاركة أكبر قدر من بياناتهم الشخصية. حيث يتم تعيين كبار محللي البيانات لدراسة وتفكيك هذه البيانات والإسراع في إيجاد "حالات الاستخدام" أو توفير تطبيقات بهدف كسب مزيد من المال من خلال هذه المعلومات.
يستطيع عدد محدود من الشركات خوض نقاش مفتوح حول هذه المعضلات الأخلاقية الثلاث، كون قوى السوق تدفعهم للمشاركة في هذه اللعبة. لذا فإن خطر وصولنا في نهاية المطاف إلى وضع غير مرغوب يعد كبيرا، أو على الصعيد الاقتصادي: السعي إلى تحقيق مصالح فردية من التكنولوجيا الرقمية، قد يترتب عليه تأثيرات سلبية كبيرة في المجتمع ككل. فقد يشعر الناس بأنهم مجبرون على مشاركة بيانات لا يرغبون فعلا في مشاركتها، وذلك من أجل الاستمرار. قد تشهد حالة التضامن تراجعا، وقد ندفع للقيام بأشياء لا نرغب في القيام بها.
لن يكون كافيا في الأعوام المقبلة حصر الجدال الرقمي في موضوعي الخصوصية والقوة السوقية فقط. بل علينا توسيع النقاش وأن نتذكر دائما أن المعضلات المتعلقة بجمع البيانات واستخدامها هي مواضيع مهمة جدا يجب عدم ترك شأنها للشركات فقط للبت فيها.

المزيد من مقالات الرأي