ملهاة «بريكست»

"لست متفائلا بشأن فرص مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي باتفاق"
جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية

من المأساة إلى الملهاة، انتقل موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست". المأساة كانت بالنسبة لأولئك الذين لا يتصورون بريطانيا خارج هذا التكتل، لكنها مع التحولات الكثيرة التي حدثت في الآونة الأخيرة صار الأمر أقرب للملهاة بالفعل. ففي حين يقول جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية: إنه ليس متفائلا بانفصال سلس للمملكة المتحدة، تقول تريزا ماي رئيسة وزرائها إن المحادثات مع الأوروبيين تحقق تقدما! يقول الأوروبيون لن نتفاوض على الاتفاق الذي تم مع لندن، وتقول الأخيرة سنتفاوض من أجل الحصول على ضمانات لهذا الاتفاق! تقول المفوضية الأوروبية بإمكان بريطانيا أن تعطل الانسحاب لفترة تفاديا لاضطراب خطير إذا ما تم الانسحاب دون اتفاق، ترد بريطانيا لا تمديد للانسحاب!
كل هذا يحدث، وانشقاقات نواب البرلمان البريطاني من الحزبين الرئيسين تتوالى بسبب "بريكست" بالطبع، ولأسباب أخرى تتعلق بقيادة زعيم حزب العمال للحزب، بما في ذلك اتهامه المباشر بمعاداة السامية، وعدم القيام بأي خطوات عملية للحد منها في أوساط الحزب. لم يحدث في التاريخ البريطاني الحديث، أن حدثت مثل هذه الانشقاقات بصورة متزامنة في حزبين أساسيين! صارت الحكومة الائتلافية التي تقودها ماي بلا أغلبية، تلك الحكومة التي دخلت التاريخ أيضا كأضعف حكومة في البلاد، كما دخلته ماي باعتبارها رئيسة الوزراء التي تمسكت بالحكم بعد هزائمها المتكررة في مجلس العموم! المشهد السياسي البريطاني عجيب فعلا، حتى إن نوابا مؤثرين اعترفوا بأنهم لم يتوقعوا أن يشهدوا مثله في حياتهم.
تريزا ماي نفسها تقول "إذا لم يحدث اتفاق، ولا يمكن استبعاد ذلك، فسيكون لذلك عواقب اقتصادية واجتماعية رهيبة في بريطانيا وعلى القارة"! الكلام واضح جدا، لكنها في المقابل لا تقدم أي بديل آخر! لا تزال متمسكة باتفاق رفضه البرلمان بأكبر أغلبية في التاريخين القديم والحديث، وتظل مستمرة في سياسة التخويف القائمة على "إما أن تصوتوا على هذا الاتفاق، أو سنخرج بلا أي اتفاق"! هذا الإصرار دفع نوابا لديها للانشقاق عن حزبها، بينما علت أصوات وزراء في حكومتها أشارت بصورة مواربة إلى أن أصحابها سيستقيلون من الحكومة فيما إذا كانت النهاية "انسحابا بلا اتفاق". أي إن تريزا ماي التي تواجه الآن انشقاقات لبعض نوابها، ستفجع باستقالة وزراء يفترض أنهم من الموالين لها. والنتيجة انهيار الحكومة بالفعل!
المشهد على الساحة البريطانية قاتم، والأيام المتبقية للمودة المحتمة للخروج صارت تحسب بالدقائق. ومن المفارقات أن وكالة التصنيف العالمي "فيتش" انضمت هي الأخرى إلى ملهاة "بريكست" لتؤكد أن خروج بريطانيا بلا اتفاق قد يؤدي إلى تخفيض تصنيفها الائتماني. لماذا؟ لأن اضطرابات كبيرة في الاقتصاد ستحدث، وربما يقوض احتمال التوصل إلى اتفاقات مستقبلية بشأن التجارة الحرة، على الأقل في المدى القصير. ماذا؟ تخفيض تصنيف المملكة المتحدة؟ نعم، لأن ما يحدث لا يتحمله أي اقتصاد في العالم مهما كان كبيرا أو قويا أو مستداما. والمؤشرات على ذلك كثيرة، منها هروب بعض الشركات العالمية من البر البريطاني، واعتزام أخرى مغادرة بريطانيا في حال خرجت بلا اتفاق. حتى المصارف البريطانية بدأت في نقل سيولة ضخمة إلى فروعها في الاتحاد الأوروبي حفاظا على وضعيتها المالية هناك.
المؤشرات الراهنة غير المؤكدة بالطبع تدل على أنه ليس أمام تريزا ماي سوى تمديد فترة الخروج، أي مواصلة عضويتها في الاتحاد الأوروبي لأجل مسمى، حتى تحل المشكلات العالقة على الساحة البريطانية نفسها، وفي مقدمتها بالطبع المسألة الإيرلندية التي تشكل العقدة الأهم حاليا. وهي مسألة معقدة لا أحد يمكنه أن يجد لها حلا. فإما أن تكون هناك حدود بين إقليم إيرلندا التابع للمملكة المتحدة مع بريطانيا، أو ألا تكون هناك حدود للإقليم مع جمهورية إيرلندا التابعة للاتحاد الأوروبي. ولا أحد سياسيا لديه الجرأة على اللعب باتفاق السلام الإيرلندي التاريخي الذي يضمن إبقاء الحدود مفتوحة بين الإقليم والجمهورية. إنه اتفاق تم بعد عقود من القتل والإرهاب والتدمير والخراب على الأرض البريطانية والإيرلندية على حد سواء.
هذا الأسبوع تاريخي أيضا في لندن، لأن رئيسة الوزراء ستقدم تقريرا عن آخر اتصالاتها مع المسؤولين الأوروبيين بشأن الاتفاق. ومن المفترض أن يتضمن شيئا يغير آراء النواب الذين صوتوا بأغلبية ساحقة ضده، غير أن الدلائل تشير إلى إخفاق ماي بهذا الصدد. فليس أمامها سوى المضي قدما في الانسحاب دون اتفاق في الـ29 من الشهر المقبل، أو أن تقبل بتمديد فترة "بريكست"، أي أن تبقى بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي حتى تتمكن من تمرير الاتفاق المفروض أصلا! إنها ملهاة حقيقية في بلد يعرفه العالم أنه الأجدر في محاكاة المستقبل ورسم آفاقه، وفي صناعة البدائل اللازمة في الأوقات المناسبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي