إفريقيا تتكاتف ضد الحروب التجارية «1 من 2»

بينما تهيمن تهديدات الحروب التجارية على المحادثات الدولية الجارية بشأن التجارة، تتحرك القارة الإفريقية في الاتجاه المعاكس. فبعد عامين من المفاوضات، قام ممثلو عدد كبير من البلدان الإفريقية المجتمعة في كيجالي بتوقيع اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية في 21 آذار (مارس) 2018، وذلك أثناء قمة استثنائية عقدها الاتحاد الإفريقي. فهل هذه الاتفاقية محاولة لمعالجة التكامل الاقتصادي الذي أصبح ضرورة ملحة ولا يزال تحقيقه معلقا؟ أم أنها جزء من تكامل إقليمي سريع ومطرد؟
بالنظر إلى مجموعة كبيرة من الروابط المتنامية عبر بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، وبالاستناد إلى إحصاءات التجارة الثنائية الصادرة عن صندوق النقد الدولي، تشير أعمالنا البحثية الأخيرة إلى الخيار الثاني. فهي تقدم أسانيد تثبت أن شبه القارة أصبحت أكثر تكاملا اليوم مما كانت عليه في الماضي. وقد يعد هذا مفاجأة للبعض، لكن مستوى التكامل في إفريقيا جنوب الصحراء يمكن مقارنته فعليا بنظيره في الاقتصادات النامية والأسواق الصاعدة الأخرى على مستوى العالم.
ويعد توثيق العلاقات الاقتصادية بين البلدان بادرة للتنمية تستحق الترحيب ودافعا واعدا للنمو المستقبلي، لكنه يستحضر أيضا تحديات تتعين مواجهتها. ذلك أن زيادة الروابط المتبادلة يمكن أن تجعل كل بلد معرضا للظروف التي تصادف البلدان الأخرى، إيجابية كانت أم سلبية.
فعلى الجانب الإيجابي، يؤدي توثيق الروابط الاقتصادية بين البلدان إلى نتائج تتعلق بالنمو حين تقوم الاقتصادات الكبرى سريعة النمو بجذب الاقتصادات الأخرى إلى مسار النمو السريع. وعلى الجانب السلبي، يمكن أن تؤدي زيادة الترابط إلى تعريض الاقتصادات الصغيرة لما يمر به شركاؤها من ركود. وقد ثبتت صحة هذه الاستنتاجات بالوقائع: فبعد قرابة عقدين من النشاط الاقتصادي القوي، تعرضت إفريقيا جنوب الصحراء في عام 2015 للأثر السلبي المترتب على التكامل. ففي ذلك العام، تباطأ النمو في إفريقيا جنوب الصحراء على نحو لم يشهده منذ أكثر من 20 عاما، تأثرا بانهيار أسعار السلع الأولية وتباطؤ النشاط الاقتصادي في نيجيريا وجنوب إفريقيا، أكبر اقتصادين في المنطقة.
غير أن الظروف تتغير، وقد بدأ النمو يتعافى منذ عام 2017، مستفيدا من البيئة الخارجية الأكثر إيجابية. ورغم ذلك، فإن التعافي متفاوت، وليس من الواضح مدى استمرار تأثر بقية البلدان في إفريقيا جنوب الصحراء ببطء التعافي في الاقتصادات الأكبر. وبغض النظر عن التعافي الحالي، فبإمكان بلدان إفريقيا جنوب الصحراء أن تبني على منافع الروابط الإقليمية مع تقليص المخاطر المصاحبة لها.

دور التجارة
كانت التجارة أبرز قنوات التكامل بين بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، حيث سجلت كثافة متزايدة بمرور الوقت. فمنذ الثمانينيات، زاد نصيب الصادرات الإقليمية من الصادرات الكلية بأكثر من ثلاثة أضعاف.
وتحظى إفريقيا جنوب الصحراء حاليا بالنصيب الأكبر من التكامل التجاري البيني الإقليمي على مستوى الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية في العالم، يليها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وآسيا الصاعدة والنامية.
ويعزى هذا التكامل المتزايد في العقود الأخيرة إلى ارتفاع النمو الاقتصادي في المنطقة مقارنة بالنمو في العالم، وما أجرته المنطقة من خفض للرسوم الجمركية، وتقوية للمؤسسات والسياسات. وعلى الرغم من أن الاتجاه العام كان مواتيا عبر الفترات الزمنية، فإن التجارة البينية الإقليمية لا تزال منخفضة نسبيا مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، ولا تزال بيئة الأعمال حافلة بالتحديات.
وقد ساعد النمو إفريقيا جنوب الصحراء على سعيها لزيادة التكامل، ولكن التكامل ذاته أثمر تداعيات مهمة على صعيد النمو. فأبحاثنا تخلص إلى أن زيادة معدل النمو المرجح بالصادرات لدى البلدان الشريكة داخل المنطقة بمقدار خمس نقاط مئوية يرتبط بزيادة متوسطة قدرها 0.5 في المائة في نمو أي بلد اعتيادي من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء. ومن المثير للاهتمام، واتساقا مع الحصص المماثلة التي تحظى بها المنطقة من التجارة البينية الإقليمية، نجد أن التداعيات التي تنتقل عبر قناة التجارة تبدو مشابهة لنظيراتها في الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية الأخرى.
ورغم ذلك، توجد محاذير مهمة تشوب أجواء التفاؤل بشأن تكامل إفريقيا جنوب الصحراء ـ أغلبها يشير إلى أن القارة لا يزال أمامها طريق طويل حتى تصل إلى التكامل التام.
وفي هذا الصدد، نلاحظ أن الجانب الأكبر من التجارة البينية في المنطقة يتسم بدرجة عالية من التركز. فعشرة من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء تمثل 65 في المائة من إجمالي الطلب الإقليمي على الصادرات البينية الإقليمية، وبإمكانها توليد أكبر التداعيات الإقليمية بوصفها أسواق المقصد لمعظم التجارة البينية الإقليمية. ويشمل ذلك اقتصادات كبرى مثل جنوب إفريقيا والبلدان المجاورة لها، وكوت ديفوار، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، لكن المفاجأة أنه يستثني بلدانا أخرى، مثل أنجولا ونيجيريا، اللتين تستوردان غالبا من بقية أنحاء العالم.
وفي أرجاء القارة، هناك جيوب صغيرة من التكامل البيني الإقليمي المكثف، رغم أن حصص الاستيراد صغيرة نسبيا مقارنة بحصص اللاعبين الكبار وبمجموع الصادرات البينية في إفريقيا جنوب الصحراء. وغالبا ما تكون البلدان ذات التكامل البيني الإقليمي المكثف بلدانا أصغر وتستورد نسبا كبيرة من إجمالي الناتج المحلي لجيرانها، ومن ثم يمكن أن تكون مصدرا كبيرا للتداعيات على المستوى دون الإقليمي. ويصدق هذا على وجه الخصوص في حالة بلدان غرب إفريقيا، مثل بوركينا فاسو وغانا ومالي، وهي أسواق كبيرة لصادرات تبلغ قيمتها 1 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لبعض شركائها التجاريين... يتبع.

المزيد من الرأي