ميزانية تريليونية وخصخصة محكمة

بعيدا عن كل القضايا السياسية والاقتصادية التي تحدث عنها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فإن أكثر ما يبعث على الفخر هو تلك المعلومات والأرقام الضخمة والثرية جدا في الميزانية المقبلة، وقدرته الواضحة في السيطرة على هذه المعلومات وتوظيفها بما يخدم الحوار، لقد تحدث في كل نواحي الوضع السياسي والاقتصاد السعودي بتمكن واضح، تمكن مَن يملك القضايا كافة في يده، وليس حديث الإملاءات من الغير، تمكن مَن يعرف أين الطريق، مَن يعرف مصلحة بلاده جيدا، ويعرف التقاطعات الدولية كافة والمرحلة الحالية.
تحدث الأمير الشاب بصراحته المعهودة وصدقه الواضح، في إخلاصه لبلاده وشعبه وأمته. ومن قرأ حديث ولي العهد في حواره الشهير مع وكالة بلومبيرج الدولية، يدرك تماما صلابة المواقف، وأن المملكة تقف على أرض صلبة من الاستقلال السياسي والاقتصادي حتى العسكري، وأثبت هذا بكل وضوح في حديثه، وإذا كان من تحالفات لبناء توازنات للتعايش الإنساني المشترك والمثمر بين القوى، فإن المملكة تدرك كل هذا وتقوم بما يجب عليها، وليس في هذا ما تخفيه، فهي تعلن ذلك في كل مناسبة، والمملكة دعمت جهود مكافحة الإرهاب الذي عم العالم بأسره، وذلك أنها أكثر الدول معاناة منه، وقامت بما يجب عليها لحماية دول العالم كافة من هذا الوباء، ولا أحد يستطيع إنكار جهود المملكة في هذا، والتعاون بهذا الشأن في القضايا كافة هو ما يمنح المملكة دورها القيادي على مستوى العالم، والمزايدات على هذا الدور القيادي للمملكة ليست غريبة، لكن تظل الحقائق على الأرض دامغة وأقوى وأصلب. المملكة تبذل قصارى جهدها لمعالجة الاختلالات في السوق النفطية العالمية من منطلق دورها الريادي في العالم، وهذا مما تفتخر به المملكة، وقد أشار ولي العهد إلى أن المملكة قادرة على التدخل في السوق بأكثر من ثلاثة ملايين برميل يوميا إذا رأت ضرورة، لكن هذا مرجعه إلى العرض والطلب وإلى الاتفاقيات الدولية التي تحترمها المملكة، وليس إلى ضغوط سياسية مهما كانت. وعندما تحدث عن القضايا الاقتصادية في المملكة، فهو كجراح ماهر يعرف أين الخلل وأين علاجه، ويعرف أيضا التطورات والمضاعفات كافة، فمن مسألة شركة أرامكو، إلى حل مشكلة البطالة ظهر الارتباط الواضح بين الوضع الراهن في السوق النفطية وبين تداعياتها على الأسواق العالمية، ومن ثم النمو في الاقتصاد السعودي، وأخيرا تأثير كل ذلك في الهدف النهائي وهو فرص العمل والحياة الاجتماعية المستقرة للشعب. لقد شرح ولي العهد بشفافية سبب تأجيل الطرح، وكان الواضح جدا أن التغيير الشامل في استراتيجية "أرامكو" خلف هذا، فالمسألة ليست في طرح "أرامكو"، بل في الاستفادة الكاملة من هذا الطرح، وهنا بكل وضوح نجد في ثنايا الحديث وجود عمل ضخم من التقارير المتواصلة والتقييم المستمر لعملية الطرح، فإن انحرف عن الهدف المنشود فذاك يتطلب فورا تصحيحا للمسار، وليس هنا ما يدعونا إلى الاستعجال، فالمسألة الاقتصادية تحتاج إلى فهم عميق للتغيرات الراهنة. لقد كانت صفقة "أرامكو ــ سابك"، تمثل تغييرا في استراتيجية "أرامكو" للاستثمار في المصب، وهذه الاستراتيجية تعني التمدد العمودي والاتجاه نحو نقاط نهاية سلسلة إمدادات "أرامكو" التي تقف عند تسليم المنتجات النفطية إلى الشركات التي تقوم بالتصنيع التالي، فالمصب بالنسبة إلى "أرامكو" هو الصناعات المكملة من البتروكيماويات وخلافه، وبذلك فإن الاستحواذ يعني نشأة شركة عملاقة ستمنح الاقتصاد السعودي زخما كبيرا جدا وستعزز النمو بشكل واضح وبالتالي تزايد فرص العمل، وفي هذا المجال فقد كان ولي العهد صادقا مع شعبه قبل الآخرين، فهو يدرك تماما مشكلة البطالة، وأن العلاج لن يكون إلا اقتصاديا، حيث تمت معالجة الاختلالات في سوق العمل من جانب، وتعزيز النمو من جانب آخر، لهذا فإن مَن يعرف هذه القضايا يعرف أن علاجها ليس لحظيا، ولهذا فإن ولي العهد قد أكد أن الأثر المتوقع في معدلات البطالة سيبدأ في الظهور مع العام المقبل. كما أشرنا أعلاه، فإن تمكن ولي العهد من القضايا كافة يمكنه دائما من الحديث ببراعة في الجوانب كافة، فليست معالجة الميزانية العامة وضبط الإنفاق من القضايا التي لا يمكن الحديث عنها علنا، بل إن الشعب بشرائحه كافة والعالم بجهاته كافة سواء الرقابية أو التصنيفية أو الاستثمارية بحاجة إلى شفافية مسؤولة، ولهذا فإن العمل في مسار تخفيض النفقات في المالية العامة سيواصل طريقه حتى تصل التخفيضات في الرواتب إلى 40 في المائة عام 2020، ثم تعاود النمو ليصل الانخفاض إلى 30 في المائة عام 2030، وإذا كان من تساؤل عن كيفية حدوث هذا التخفيض، فإن متابعة الحديث وربط القضايا ببعضها بعضا، يكشفان أن أحد أهداف الخصخصة هو معالجة المالية العامة والنفقات، حيث إن الخدمات الناجحة التي يمكن لها أن تستقل بإيراداتها عن المالية العامة وتواصل النمو الصحيح من خلال إطار العمل وفقا لمناهج القطاع الخاص ستتم خصخصتها، وبذلك تنخفض فاتورة الرواتب مع خروج هذه القطاعات تباعا، هذا إضافة إلى النمو المطّرد في التوازن المالي، حيث يتم تعزيز الإيرادات غير النفطية وتنمية الإيرادات بشكل عام حتى تصل إلى تريليون ريال عام 2023، مع إعادة هيكلة المصروفات في المالية العامة. لعل الترابط بين القضايا في حديث الأمير محمد بن سلمان، هو من أكثر ما يجذب القراء، ويحقق لهم مزيدا من الفرص للتأمل والفهم العميق، فالمملكة التي تتجه نحو تنمية ذراعها الاستثمارية ستستمر في المشاركة في صندوق رؤية سوفت بنك، كما سيتم الإعلان عن صفقة رائعة خلال الأيام المقبلة، وهناك تسارع في العمل في مشاريع "نيوم"، ومشاريع البحر الأحمر. باختصار غير مخل، فإن المملكة مع هذا الشاب الطموح المتمكن من أدواته على موعد مع عنان السماء، وقمة العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي