التناوب بين اللغات .. والصراع الطبقي

كثيرا ما نتناوب بين لهجة وأخرى أو لغة وأخرى، وكثيرا ما نخلط بين لهجتين أو لغتين. هذه ممارسة لغوية يقوم بها أغلب الناس ممن يتقنون لهجتين أو أكثر، أو لغتين أو أكثر.
وقد يرى بعضهم أنها ممارسة بريئة، يقوم بها الناس دون وعي منهم، وأنه ليس هناك أي تبعات اجتماعية أو ثقافية أو نفسية لها.
وهذا ما خطر في بال أول عالم لغوي تطرق إلى هذه الظاهرة تحت عنوان تسميتها الإنجليزية code-switching. العالم الذي استنبط هذا المصطلح وأشبعه نقاشا هو الأمريكي أينار هوجين، وذلك عام 1954.
إلا أن هوجين كان عالم لغة، وكان همه تقديم وصف لغوي علمي لعملية الخلط بين اللغات واللهجات أثناء الحديث، وما ترافقها من تغيرات نحوية وصرفية وصوتية.
ولكننا اليوم، ونحن مدينون لهذا العالم اللغوي الكبير ودراساته الرصينة لظاهرة لغوية فريدة، نرى أن الناس عندما يتناوبون أو يخلطون أصوتا أو مفردات أو تعابير لهجات أو لغات مختلفة، فإنهم في ذلك يعبرون عن اختلافات وفروق في المكانة الاجتماعية والسلطة والاختلاف العرقي والثقافي أيضا.
فنحن عندما ننتقل من لفظ إلى آخر، ومن مفردة إلى أخرى، ومن تعبير إلى آخر عند تناوبنا بين اللهجات واللغات التي نتحدث بها، نفعل ذلك استجابة للمكانة الاجتماعية، وفي الغالب لتحقيق غايتين أساسيتين:
الأولى: نتبنى الألفاظ أو المفردات أو الأطر الشائعة لدى لهجة أو لغة نراها أسمى مما لدينا؛ بغية اللحاق بالركب الاجتماعي للناطقين بها.
الأخرى: نتبنى نحن أصحاب لهجة أو لغة نراها أرفع مقاما ومكانة وسموا، ألفاظا أو مفردات أو أطرا شائعة لدى لغة أو لهجة لدى من نراهم أدنى مما نحن عليه؛ للتقليل من شأنهم ومكانتهم الاجتماعية.
إذن؛ مسألة تغيير اللفظ أو المفردة أو العبارة حسب لهجة أخرى أو لغة أخرى ليست عملا روتينيا اعتباطيا. نحن نقوم بذلك للتعبير عن مكنوناتنا ووجهة نظرنا؛ لتحقيق أهداف اجتماعية أو ثقافية أو غيرهما.
وقد تكون أيضا وسيلة للوصول إلى مرتبة أعلى، أو الولوج في عالم اجتماعي، الانتماء إليه لن يتم ما لم نظهر أننا نتقن استخدام اللهجة أو اللغة الدارجة لدى منتسبيه.
أثناء حضوري ندوة حول الإعلام في المغرب العربي وبعد إلقائي كلمتي، أتى دور رئيس الجلسة في التعقيب. ورغم أنني ألقيت كلمتي باللغة العربية، إلا أن رئيس الجلسة كان يتناوب بين العربية والفرنسية، وأحيانا يخلط ألفاظا وعبارات فرنسية عند حديثه بالعربية.
وبدأت ظاهرة التناوب والخلط اللغوي تطفو على السطح في بعض دول الخليج العربي. بعض الناس، ولا سيما الشباب من الذين يتلقون دراساتهم بالإنجليزية، يتناوبون بين اللغتين، أو أحيانا يخلطون ألفاظا ومفردات إنجليزية عند الحديث بالعربية. وأظن أن تأطيرنا النظري لهذه الظاهرة سيمكن القارئ اللبيب من تفسير شيوعها في هذه البلدان.
وظاهرة التناوب أو الخلط اللغوي بدأت تأخذ أبعادا مؤثرة في الفنون والعلوم الاجتماعية في الولايات المتحدة مثلا. الصراع العنصري في هذا البلد يتجلى بصورة ناصعة في الخطاب العنصري؛ حيث إن السود يميزون بطريقة نطقهم لبعض الأصوات من ساكنة ومتحركة بشكل مختلف عن البيض، ويستخدمون مفردات وعبارات خاصة بهم.
هذه الأصوات والألفاظ والمفردات صارت مؤشرا لتدني الحالة الاجتماعية، وأن التخلي عنها واستبدالها بالتي لدى البيض يراها بعضهم شرطا للصعود في السلمين الاجتماعي والاقتصادي.
بينما استخدام الأصوات والألفاظ والمفردات الشائعة لدى السود من قبل البيض في أمريكا يعد مؤشرا للازدراء والتقليل من الشأن والمكانة الاجتماعية.
ونحن بصورة عامة نتناوب؛ أي ننتقل من مستوى لغوي إلى آخر استنادا إلى الوضع الاجتماعي الذي نحن فيه. طريقة حديثنا في البيت؛ أي اللهجة التي نستخدمها، قد تختلف تماما عن طريقة حديثنا لو كنا في مقابلة نتنافس فيها على منصب شاغر لوظيفة مهمة.
الواقع الاجتماعي الذي تمثله ظاهرة التناوب بين اللهجات أو اللغات أو الخلط بينهما - معقد، ويوحي لنا بتبعات كبيرة خارج نطاق وصفها كظاهرة لغوية.
الأصوات والمفردات والتعابير الخاصة بلهجة أو لغة محددة قد تشكل الفرق بين الحياة أو الموت، وهذا يذكرني بالموقف في السويد مثلا؛ حيث كان شرط منح اللجوء والإقامة الدائمة للعراقيين تمكنهم من لهجتهم الدارجة. وكان بعض العرب من الأقطار الأخرى يحاولون إتقان اللهجة العراقية للبرهنة على أنهم عراقيون، ومن خلال اللهجة الحصول على اللجوء.
ولكن في كثير من الأحيان تنعكس الآية اللغوية في التناوب أو الخلط بين اللهجات أو اللغات على أصحابها.
لقد حاول كثير من العمال الأجانب من الهند وغيرها من الدول الآسيوية في الخليج العربي، إتقان اللغة العربية؛ لصعود السلم الاجتماعي. بيد أن أغلبيتهم الساحقة فشلت في ذلك؛ لأنها وجدت لنفسها لهجة خاصة تتناوب وتتداخل فيها أصوات وألفاظ صارت مؤشرا لدرجة اجتماعية متدنية.
وإن مارس المواطنون في دول الخليج العربي التناوب والخلط اللغوي، الذي استنبطه الهنود مثلا للحديث بالعربية، فهم يفعلون ذلك انتقاصا وليس رغبة في صعود السلم الاجتماعي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي