الإيحاء آلية التغيير

يواجه المرء في حياته العملية، وفي الحياة العامة أشخاصا لديهم قناعات، ومعتقدات خاطئة تجاه أنفسهم، فالمعلم قد يكون لدى أحد طلابه قناعة أنه ليس لديه القدرة الكافية لتجاوز المادة الدراسية لصعوبتها، ويستحيل النجاح فيها حتى إن هذا الشعور يتحول إلى قناعة مترسخة لديه يتصرف وفقها وتؤثر في سلوكه وبسببها لا يبذل الجهد المطلوب، نتيجة استسلامه لهذا الشعور الخاطئ، كما أن الطبيب يواجه مريضا لديه قناعة باستحالة شفائه من المرض الذي يعانيه، حتى إن هذا الشعور يقوده لإهمال العلاج، وعدم التعاون مع الطبيب، وما من شك أن هذه مشكلات تستوجب التعامل معها بحذاقة، وفطنة، وبأسلوب غير مباشر تفاديا لاتخاذ الفرد موقفا دفاعيا ومعاندا ما يعيق تجاوز كل منهما الموقف الصعب الذي يمر به.
الإيحاء إحدى العمليات النفسية التي يتم بها التعامل مع هذه الحالات، وبتعريف بسيط يمكن القول إن الإيحاء عملية يتم بموجبها تغيير القناعة ذات الطابع السلبي لتحل محلها قناعة ذات طابع إيجابي، كما يمكن إحلال قناعة إيجابية محل قناعة سلبية، أو غرس قناعة سلبية أو إيجابية من الأساس من قبل فرد، أو جماعة، أو وسيلة إعلامية، وذلك بعرض موقف أو مشهد جذاب، يقدمه شخص من المشاهير، أو ذو تأثير في المتلقي. ولذا نجد أن الأفلام، خاصة أفلام الكرتون، والمسلسلات ذات تأثير كبير بصورة إيحائية، خالية من الأمر، والطلب، أو التوجيه، وإنما بشكل غير مباشر على الأطفال، والناشئة، لقلة الخبرة، وعدم النضج.
بطل الفيلم، الذي يشكل قدوة مؤثرة في الدور الذي يقوم به قد يكون له دور إيجابي، أو سلبي، حسب سيناريو القصة، والدور الواجب القيام به، فعلى سبيل المثال قد يعمل دعاية بصورة إيحائية للاهتمام بنظافة الشارع من خلال التوقف عند علبة بيبسي مرمية في الشارع، ووضعها في حاوية النفايات، كما يمكن أن يكون له دور سلبي وبصورة إيحائية، ويعمل دعاية للتدخين من خلال إمساكه السيجارة، وإشعالها، والتدخين، وإظهار استمتاعه بذلك، وهو بذلك يجد قناعة تحببه في التدخين.
جماعات الجريمة، والإرهاب توظف الإيحاء في استقطاب، وإعداد أفرادها، وذلك بإضفاء صفة الشجاعة على أحد الأفراد، وإيهامه بالقوة، والقدرة على القيام بمهمات لا يقوم بها غيره، وربما يربط بين الشخص المستهدف، وشخصية تاريخية لها دور يتماثل مع الدور المطلوب القيام به من قبل الفرد المراد توظيفه للقيام بهذا الدور.
الإيحاء من الممكن أن يكون ذاتيا، وليس بالضرورة من خلال مصدر خارجي، حيث يتذكر المرء موقفا ذا طابع إيجابي وينطلق منه، ويكرره في عقله ليغير بهذا الموقف قناعة ذات طابع سلبي وجدت لديه، وأعاقته عن تحقيق هدف من الأهداف التي يسعى إليها، فالطالب الذي تشكلت لديه قناعة أنه لا يفهم الرياضيات قد يتذكر تحقيقه درجة عالية في مادة الرياضيات في سنة سابقة، وبتكرار تلك الخبرة في عقله تتشكل قناعة جديدة بقدرته على فهم الرياضيات، وتحقيق درجة عالية في المادة التي يدرسها، ويشعر بصعوبتها، وعدم قدرته على النجاح فيها.
الإيحاء، كعملية نفسية، ليس أمرا حديثا، بل قديما قدم الإنسان، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك، كما في قوله تعالى "وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون"، الآية الكريمة واضحة الدلالة في سعي الكفار إلى التأثير في المؤمنين من خلال سلوك عملي يتمثل في إظهار الإيمان، ومن ثم النكوص، والتراجع عن الإيمان، وهذا من شأنه هز القناعات الإيمانية لدى المؤمنين، بصورة إيحائية، غير مباشرة تحقق تراجعهم عن الإيمان، دون الطلب المباشر.
تذكرت وأنا أكتب المقال حوارا تم بيني، وبين مجموعة من الطلاب في إحدى الجهات العسكرية، ضمن مشروع تطوير مناهج، ومقررات تلك الجهة -الذي لم يكتب له الاستمرار لظروف تعود لتلك الجهة- حيث عبر الطلاب عن تذمرهم من بعض الأساتذة الأجانب، وكيف أنهم يوحون لهم بصعوبة العمل العسكري، وتقييده حرية منتسبيه، حيث يكرر الأساتذة كيف أنهم في المساء سيقضون أمسية ممتعة يشاهد أحدهم التلفزيون ويحتسي الشاي، ويسترخي، أو يمارس الرياضة، ويتسوق، وهذا ما لا يتحقق للطلاب الذين يخضعون للإقامة الداخلية، حتى إن بعض الطلاب عبر عن استيائه، وكيف أن مثل هذا الحديث هز قناعتهم بالعمل العسكري، وفكر بعضهم في الانسحاب، والبحث عن عمل مدني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي