اقتصاديات الأدوية

تقوم وزارة الصحة مع مكتب تحقيق «الرؤية» بمحاولة شاملة لإصلاح القطاع الصحي من خلال ما يبدو أنه نظرة شاملة لقطاع معقد، ولكنه يزيد تعقيدا حين نتجاوز اقتصاديات القطاع الحيثية -تفكيك الجزئيات وتسعيرها اقتصاديا. طبيعة التحدي -ارتفاع تكاليف القطاع وتزايد السكان خاصة تكاثر كبار السن- والخلفية الإدارية المتواضعة تتطلب نظرة استراتيجية عامة، ولكن هناك مخاطر في ضياع الجزيئات المهمة والمحركة في البحر الواسع بسبب الإهمال المريع. في نظري عدم تفكيك الجزيئات يرفع المخاطرة على العملية الإصلاحية ما قد يعقد الحلول المستقبلية. أحد أوجه الإصلاح يتمثل في أسعار الأدوية في المملكة التي تعد مرتفعة مقارنة بأسعارها في دول بالحجم نفسه والمستوى المقارب تنمويا مثل تركيا. هناك حاجة ماسة لمراجعة السياسة العامة في توزيع وتسعير الأدوية وجودتها.
النموذج الدارج في المملكة أن هناك وكيلا حصريا -ليس في نظام التجارة وكيل حصري، ولكن العلاقة المصلحية بين الشركات والوكلاء ثابتة وتخدمهم على حساب المصالح العامة غالبا- وحتى بعض الشركات العالمية وجدت في الوكيل الحصري فرصة على الرغم من وجودها المباشر في المملكة. الوكيل يحقق حصة الأسد من الأرباح -يسميه الاقتصاديون إيجارا اقتصاديا إذ إنه ليس ربحا من عمل مباشر، ولكنه استغلال لوضع تحت ممارسة معينة- مصدر الربح التوزيع فقط، وهذا بدوره الآن يتعرض لتغييرات معتبرة. الموزع الأخير الصيدليات لا تحقق أرباحا مجزية لذلك تسعى للتوسع أفقيا وبيع مستلزمات استهلاكية ليس لها علاقة بصناعه الدواء في تشويه آخر لقطاع التجزئة. لم ينشأ هذا النموذج من تخطيط، ولكن بسبب التطور الطبيعي للتأسيس وما يسميه الاقتصاديون الطريق المعتاد path dependency وأيضا بسبب الدور الإيجابي الذي أعطي للقطاع الخاص تاريخيا. الإشكالية أن هذا النموذج يخدم عدة عائلات تجارية على حساب المصلحة العامة لأن فاتورة الدواء مرتفعة مقارنة بأسلوب آخر لاستيراد الدواء، فما يخدم فئة قليلة لا يخدم المصلحة الوطنية أحيانا. أحد الجوانب المهمة من هذا النموذج خاصة في السنوات الأخيرة تنامي الشركات الوطنية لصناعة الأدوية وهذه عادة تصنع إما تحت ترخيص محكم من شركات دولية وهذه ليست كثيرة، الأكثر شيوعا صناعة الأدوية التي انتهت براءة حمايتها الفكرية Generics، وهنا تزيد المخاطرة في الجودة ما يتطلب رقابة أعلى من قبل هيئة الغذاء والدواء. هناك مخاطرة من منافسة بينهم إلى حد التنازل عن الجودة كما يحدث في بلدان مجاورة كثيرة ويصلنا بعضها. المستشفيات الحكومية تشتري الدواء من خلال الشركة الوطنية وهذه قد تكون جزءا من الحل لتطوير صناعة الدواء.
الخلاصة أن المشهد يزداد تعقيدا ولذلك هناك حاجة لمراجعة لاقتصاديات إنتاج وتصنيع وتوزيع الدواء.
الأحرى أن يقوم نموذج بديل يصمم بعين على حماية المواطن بالتكلفة والجودة وعين أخرى لتطوير وتوطين صناعة الأدوية في المملكة. نعرف أننا نحتاج إلى المنافسة ولكن مع رقابة حصيفة ونعرف أن تكلفة الدواء جزء مهم من تكلفة العلاج والرعاية الصحية، ولذلك لابد أن يكون السعر يسمح بالربح الاقتصادي ولكن ليس استغلالا ونعرف أن لدى المملكة صيدليات أكثر من الدول الأخرى مقارنة بعدد السكان ولكنها تبيع أدوية كثيرة دون وصفة طبية. عملية إصلاح القطاع الصحي في ظل الحاجة لحفظ تكاليف الحكومة ستكون تحديا كبيرا من أكثر من زاوية. الدواء إحدى هذه الزوايا المهمة، ولكن أيضا يجمع بين الفرصة التصنيعية والسيطرة على التكاليف وحماية المواطن، وأخيرا عمليا يصعب الإصلاح الكلي دون تفكيك لمكوناته من خلال سياسة مختلفة أفقيا ورأسيا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي