المنظور الاقتصادي في سياسة التعليم

الحياة في مجملها موارد متاحة، وعلينا استخدام هذه الموارد بأفضل الطرق، لهذا قيل الحاجة أم الاختراع، فالاقتصاد محرك أساس لحياة البشر على وجه هذه البسيطة. كل الأديان السماوية جاءت لتبين للإنسان كيف يعيش في هذه الأرض ويعمرها، بسلوك اقتصادي رشيد يحترم الإنسان والبيئة، لهذا فإن العلم في جوهره هو اكتشاف الموارد الحقيقية الموجودة على الأرض واكتشاف أفضل السبل من أجل استخدامها، والمحافظة عليها، كما أنه يسعى إلى فهم كيف يتعايش البشر في مجتمعات، وكيف يتم توزيع هذه الموارد عليهم، من له الحق في هذا ومن ليس له الحق. كل هذا مصنف في عديد من المعارف والعلوم، التي يتعلمها الإنسان طوعا أو كرها، طوعا من خلال مؤسسات التعليم التي تسعى الدول جميعا إلى تطويرها، وكرها من خلال التجربة والأخطاء والكوارث، التي يتعرض لها الإنسان الجاهل بهذه المعارف. لهذا تسمو المجتمعات بعضها فوق بعض من خلال تقبلها طوعا مسألة تطوير العلم والانخراط في التعليم والبحث، ومشاركة العالم في اكتشاف مزيد من الموارد أو تطوير استخدامات الموارد المتاحة اليوم. ومع الكوارث، التي تصيب البشر على مر التاريخ ستنجو المجتمعات التي لديها رصيد معرفي كاف لتجاوز الأزمة والاستغلال الكفء للمتاح من مواردها الاقتصادية، أما المجتمعات التي تفشل في هذا الاختبار فسيكون مصيرها مجهولا. فالتعلم والحالة الاقتصادية في أي مجتمع هما صنوان، يسقيان من مورد واحد، وإن اختلفت ثمارهما.
ولهذا كله فمن نافلة القول أن الاهتمام بمستقبل التعليم في أي بلد هو جزء لا يتجزأ من الإصلاح الاقتصادي فيه، تعليم يمس جميع مدارك الحياة، وخاصة تلك التي تتعلق بالاقتصاد والاستثمار واتخاذ القرارات المتعلقة بتخصيص الموارد، والأسواق المالية، والشركات والصناعات بأنواعها. والتجارب العالمية أثبتت أن إصلاح الاقتصاد يبدأ من إصلاح منظومة التعليم، فهذه هي التجربة السنغافورية تقف شاهد عيان على ما فعله إصلاح التعليم في بناء اقتصاد صناعي مستقل، على الرغم من أن سنغافورة خرجت بلدا فقيرا ومتخلفا بعد الاستعمار البريطاني لها، ولقد أورد لي كوان يو، الرئيس السنغافوري في كتابه "قصة سنغافورة"، كيف لعب التعليم دورا أساسا في كل الإصلاحات التي قام بها. والحال نفسها تكررت مع التجربة الماليزية، فهناك وقف التعليم مصدرا أساسا للنقلة الحضارية التي شهدتها البلاد. كما أن العالم اليوم يشهد للهند نقلة حضارية استطاعت من خلالها قلب ميزان المدفوعات لديها، وأن تحقق فوائض اقتصادية كبيرة، وتتحول إلى قوة عظمى في غضون سنوات معدودة في عمر الأمم. ومن يتحدث عن التقنية اليوم لا بد أن يشهد للهند بقصب السبق فيها، كل هذه التجارب جاءت نتيجة حتمية لتطوير التعليم والاهتمام به، وليس التعامل معه كخدمة اجتماعية هدفها القضاء على الأمية في المجتمع.
ولأنه يجب أن يعمل التعليم كرافعة اقتصادية أساسية، لا مفر من تطوير أدوات التفكير لدى النشء، يجب أن نتحول من تعليم تلقيني إلى تعليم يهتم بالاكتشاف الذاتي للمعرفة ومهارات تطويرها، تعليم يرتكز على مهارات البحث والتقييم والتفكير المنهجي المنطقي. ولأن الحاضر اليوم يعتمد على التقنية ومن المتوقع أن يشهد العالم تطورا نوعيا في هذا القرن، فإن تطوير أدوات المعرفة والتلقي الإلكترونية في المدراس يجب أن تتحسن كثيرا، المعرفة التي مصدرها العالم الافتراضي أصبحت مقبولة لدى المجتمعات، ولهذا لا بد من تطوير أدوات الطلاب نحو فهم المصادر الصحيحة للمعرفة في العالم الافتراضي، وأيضا تقييم هذه المعرفة، والقدرة على مراجعتها وتصحيحها. المعرفة كمورد اقتصادي أصبحت أقل تكلفة من ذي قبل، ولكن مع درجة أقل من الموثوقية فيها، فلم تعد قضيتنا ضمان نقل المعرفة من جيل إلى جيل، فقد تكفل بها الإنترنت والكتب والصحف والمجلات الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعية والمدونات بمختلف أنواعها، بل سيكون علينا تدريب الطلاب على كيفية توثيق المعرفة، التي يحصلون عليها من المصادر المختلفة، والتوثق منها، خاصة أنها تتجدد بشكل لافت.
من هنا نجد أن تطوير مناهج التعليم لا يعني بالضرورة تطوير كتب جديدة وطباعتها أو بناء قاعات دراسية كبيرة وفسيحة ومذهلة، بل يجب أن تتوافر اليوم لدينا مقررات في عالم افتراضي، مقررات يصل إليها الطالب ويتعامل معها، بشكل مستقل عن فناء المدرسة وسورها، معرفة لم يتلقاها من خلال سبورة وقلم أسود، وطابور صباحي. على وزارة التعليم أن تدرك مثل هذه التحولات والتغيرات الأساسية في بنية المعرفة البشرية، وأن تتخلص من تأثير التعليم التلقيني المعلب مسبقا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي