بريق المحاماة

جمعتني الصدفة بأحد أساتذة القانون في إحدى الجامعات البريطانية وقد بلغ سن التقاعد ما دعاني لانتهاز هذه الفرصة لسؤاله عما لاحظته أثناء دراستي هناك من وجود الكثير من الأكاديميين الذين هجروا مهنة المحاماة واتجهوا للتدريس أو التدريب مع ما أسمعه من انتعاش سوق المهنة هناك. عندها أطرق الأستاذ قليلا وكأنه يرسم خطة الجواب أو يحاول التعرف على أهداف السؤال لتقرير نوع الإجابة، ولم يدم ذلك طويلا حتى قلب السؤل بقوله هل تعرف تاتشر؟ هل تعرف ساركوزي؟ هل تعرف أوباما؟ وعدد بعض المشاهير وأنا أجيب بنعم، قال كل هؤلاء محامون وكثير من مشاهير المحامين هم من مشاهير الأثرياء، إن هذا البريق لهذه المهنة جعلها محط أنظار الكثير، كما أنها مهنة يسهل الحصول عليها فحامل البكالوريوس بأي تخصص يمكنه دراسة الماجستير في القانون والتدرب مدة من الزمن فيكون محاميا لكن الأمر المهم هو أن يكون محاميا جيدا لا محاميا فقط، ومعيار الجودة لا يتوقف على المعلومات القانونية وحدها بل على كثير من النواحي الشخصية فكثير من المحامين في العالم يعانون ظروفا مادية قد تضطرهم لأعمال أخرى لحين الحصول على قضايا ينشغلون بها.
ومن حيث الواقع لدينا فإنه مع التطور الملحوظ للمهنة ومواكبتها لثورة الأنظمة في شتى المجالات، فإن الأمر المؤسف هو غياب الكثير من كبار المحامين عن الساحة إما غيابا تاما من خلال العزوف عن تجديد الرخصة أو الانكفاء على قضايا منتقاة وفق سقف محدد العدد والأتعاب لا سيما بعد وصوله للمستوى المعيشي الذي يرتضيه.إن المحاماة كأي عمل مهني محفوفة بالصعاب والضغوط العامة والخاصة، بل سجلت ضمن أعلى المهن حدة من حيث الضغط النفسي والجسدي ما يعني الحاجة للتساؤل عن أسباب الغياب لدى البعض في وقت تصل فيه أعمار مكاتب المحاماة في الدول المتقدمة إلى مئات السنين متجاوزة في ذلك عمر المحامي الفرد بل أعمار أجيال متلاحقة.
إن أصعب ما يواجهه المحامي هو الإدارة، والإدارة لا تقتصر على مفهومها التقليدي لدى البعض، فالعمل المهني مع ما يعتمد عليه من تحصيل علمي وخبرات في المجال ذاته فيه جانب تجاري يحتاج للتسويق، وقدرة على الإقناع، وتطوير متجدد للمعلومات وفن التعامل مع العملاء، وتنظيم الوقت وتوزيع المهام، وهذا على سبيل المثال لا الحصر فالبعض يجيد العمل تحت السقف ولا يستطيع الاستقلال.إن فشل المحامي في الإدارة واعتماده على نفسه في كل شيء حتما سيؤدي إلى عجزه يوما ما، إما عجزا عن المنافسة أو الاستمرار في المجال لأي ظرف آخر، وخسارة محام أمضى سنوات من عمره في هذا العمل لا تقتصر على شخصه بل هي خسارة للعدالة وللمجتمع على حد سواء.
إن المحامي القادر على إدارة مكتبه بشكل جيد يعني وجود فرص لوظائف كثيرة ودخول دماء شابة إلى المهنة واختصار الطريق عليها باكتساب الخبرة من المحامي المدير، ولعل ما نشهده من تطور في مشروع نظام الشركات المهنية والسماح لدخول الشريك غير المهني بنسبة 30 في المائة سيحدث تغييرا في هذا المجال وضمانة لاستمرار العطاء في سائر الأعمال المهنية ومهنة المحاماة تحديدا. ما تجدر الإشارة إليه أن عدد المتدربين المسجلين رسميا لدى مكاتب المحاماة يتجاوز أربعة آلاف متدرب مشكلين في ذلك عددا يتجاوز عدد المحامين الممارسين قرابة الثلث ما يجعل الحاجة ملحة لخلق الفرص عن طريق تطبيق وتطوير الأنظمة ذات العلاقة وتعديل بعض النصوص التي تسمح بدخول المتطفلين على هذه المهنة لا سيما مع توافر العدد الكافي من المحامين الذي سينعكس حتما على توافر أسعار الخدمات المقدمة بشكل معقول وبشكل مهني محترف. وبالله التوفيق...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي