فيلم «الخروج البريطاني» الطويل

"كيف يمكن أن تعين بريطانيا كذابا وزيرا لخارجيتها؟!"
جان مارك إرو - وزير الخارجية الفرنسي

في إحدى المرات قال الممثل الإنجليزي المعروف جيسن ستاثام "إن الشيء الوحيد المتعلق بالمملكة المتحدة، أننا لا ننتج أفلاما عظيمة بما يكفي". وأيا كان مستوى البلاغة فيما قاله ستاثام، فالعالم يشهد الآن على الساحة وليس في صالات العرض، أكبر "الأفلام" السياسية العالمية الواقعية على الإطلاق، منذ الحرب العالمية الثانية. الفيلم يحمل عنوانه العريض "خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي". هو سياسي تاريخي اقتصادي ثقافي جغرافي تجاري. إنه تعليمي إجرائي قانوني. وهو أيضا إنساني حقوقي سياحي. لكنه قبل كل هذه الموسومات، إنه فيلم واقعي من إخراج هواة سياسيين لم يعرفوا الاحتراف السياسي بعد. هواة حالمون بتكريس تلك "النعرة" الموجودة حتى في المجتمعات الراشدة التي فازت برشدها على مدى عقود من التجارب والآلام والنجاحات والانكسارات والتسامح. "نعرة" المحلي ـــ الشعبوي، لا الوطني ـــ العالمي.
"فيلم" الخروج، أكثر "الأفلام" تكلفة في التاريخ. إنه من النوع الذي تبدو التكلفة المالية الآنية له بلا قيمة، مقابل التكاليف المرعبة المقبلة، ولاسيما تلك التي ستدفعها "رغما عنها" الأجيال البريطانية القادمة. ومن المفارقات، أن نصف الشعب البريطاني تقريبا لا يريد حضور الفيلم المجاني، وبعض من النصف الآخر ترك مقاعده مبكرا خارجا بصمت من العرض والمشهد، متسائلا ما فعلت عندما منحت صوتي في الاستفتاء العام لمصلحة الخروج من الاتحاد؟ شريحة من هذه الفئة النادمة، تحدثت بوضوح وعلانية عن أسفها على صوتها السلبي تجاه بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وكل هذا ظهر، عندما أصبح ما كان نظريا.. حقيقيا. ما كان "فانتازيا" بات واقعيا. والأهم أنه لا مجال للعودة والادعاء بـ "أننا نمزح يا جماعة". لم يعرفوا، أن مزحا كهذا.. مسؤولية أيضا.
كل هذا لا قيمة عملية له الآن. ما حدث صار حتميا منذ اللحظة الأولى، و"فيلم" الخروج الطويل لم ينته بإعلان محصلة الاستفتاء، واستقالة رئيس وزراء وضع مستقبله السياسي رهنا بنتيجة تصب في معين البقاء، ولا حتى بتهديدات مبطنة (الآن على الأقل) بانسحاب اسكتلندا وإيرلندا الشمالية من الاتحاد البريطاني. دعك من أولئك الحالمين الذين طرحوا إمكانية "انفصال" حتى مدينة لندن عن المملكة المتحدة نفسها، لماذا؟ لأن العاصمة وقفت بقوة إلى جانب الاتحاد الأوروبي، وهي تمثل قوة انتخابية عريضة. كل هذا لا معنى له الآن على الأقل. المهم حاليا التجهيز لمفاوضات شاقة مع الأوروبيين حول الخروج وشكل العلاقة المستقبلية مع الجارة البريطانية. هذه الأخيرة، ليست في محل "المغازلة" مرة أخرى. إنها في مرحلة خسارة جزء كبير من "حديقتها" التي كانت مترامية، لحساب جارها الكبير الغاضب المسمى الاتحاد الأوروبي.
تيريزا ماي رئيسة وزراء "الصدفة" (تماما كحال مارجريت ثاتشر عندما وصلت إلى الحكم)، ليست ضعيفة في عملية صنع القرار المحلي. لكنها في الوقت نفسه تواجه مهامّ لا يتمناها أي رئيس وزراء آخر، عرف مسبقا تبعات خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي. عليها أن تُخرج البلاد وتجمع الوطن في الوقت نفسه. ولا شك في أنها اتسمت بالحكمة، عندما أوكلت مهمة مفاوضات الخروج إلى فريق قتل نفسه من أجل الخروج، ونشر ما أمكن له من الأكاذيب لتحقيق هذا الهدف. فريق يبدو أنه يشعر بورطة المهمة، ليس لأنه نادم على الخروج، بل لكونه ذاهبا إلى مفاوضات لن يحصل فيها على أي ترضية. خصوصا في ظل كراهية مباشرة له من كل السياسيين الأوروبيين، ولا سيما أولئك الذين عرفوا أن الذي نجح في الاستفتاء البريطاني ليس سوى الأكاذيب. وأن صدق معسكر البقاء كان الضحية الأولى والأكبر.
"فيلم" الخروج سيظل مستمرا ليس لمدة عامين فقط (وهي الفترة القانونية لمفاوضات الخروج)، بل لسنوات طويلة آتية. حتى لو انتهت المفاوضات في موعدها أو قبل ذلك، فأمام بريطانيا مفاوضات أخرى مع بقية بلدان العالم، كما أنها ستشهد انسحابا تدريجيا لبعض أكوام الأموال والنشاطات الاقتصادية المختلفة إلى الساحة الأوروبية. وستجد أمامها أيضا نسبة لا تحب أن تراها من المتعطلين عن العمل. ستشهد استمرارا خطيرا للانقسام الداخلي، ناهيك عن الاضطرابات المخيفة داخل الحزب الحاكم، بل في قلب حزب العمال المنافس له. بالطبع ستبقى بريطانيا أوروبية، لكن بحدود تظهرها خرائط جوجل، لا ببشر يمسحونها على الأرض تلقائيا في حياتهم اليومية، ويخفون معالمها من أجل كل الأطراف، لا لمصلحة شعبويين محليين يقرأون الأخبار بجد واهتمام، دون أن يعرفوا معناها الاستراتيجي.
لا يهم إن كان بوريس جونسون زعيم معسكر الخروج البريطاني وزيرا للخارجية في حكومة رئيسة وزراء من قيادات معسكر البقاء. المهم الآن التكاليف المستحقة على الخروج، وكيف يمكن لفريق المفاوضات الانفصالي، الفوز بصفقة يستطيع أن يسوقها في السوق البريطانية الشعبية والاقتصادية. وستحاول تيريزا ماي أن تعفي نفسها من أي صفقة سيئة، أو على الأقل ستقلل من مسؤوليتها عنها. أليس أولئك الذين روجوا بأن بريطانيا تدفع أسبوعيا للاتحاد الأوروبي 350 مليون جنيه استرليني، هم الذين يقودون المفاوضات؟ لا شك أنهم سيعودون بالـ 350 مليونا، لكنهم سيتركون مئات المليارات عند شركائهم السابقين، وجيرانهم المستقبليين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي