سلوكيات المجتمع ما بعد النفط

قال الملك إدريس السنوسي ملك ليبيا عند إخباره بأن اتحاد الشركات الأمريكية اكتشف النفط في بلاده: "أتمنى لو أنكم عثرتم على مياه". تلك الثروة التي تعتمد عليها المملكة في موازناتها وكانت سببا للطفرة والتنمية التي شهدها الوطن في شتى المجالات، وهناك أربع صفات مميزة لعائدات النفط: حجمها، ومصدرها، واستقرارها، وسريتها.
وهذه الصفات المميزة تزيد أن تنقص تبعا للقوة المتنامية لشركات النفط المملوكة من قبل الدولة.
ولا شك أن تلك الطفرة أثرت في كيفية معيشتنا وحجم المعيشة ونوعها، وبالتالي أصبحنا تحت وطأة تأثير تلك العادات الاستهلاكية، دونما إنتاج يذكر إذا ما تحدثنا عن الصناعات التي ليس لها علاقة بالنفط.
وأفرزت لنا تلك العادات الاستهلاكية الكثير من الأعراض ذات الأثر في صحة الإنسان والمجتمع، وكذلك من هدر الثروات الطبيعية والمادية.
ومع التغيرات في أسواق النفط وأسعاره، وكذلك التغيرات الإقليمية والدولية، أصبحنا لا محالة في حاجة إلى إعادة تعريف سلوكياتنا التي طالما ارتبطت بتلك الثروة الكبيرة التي كانت لفترة طويلة، لا تشعرنا حقيقة بالبيئة التي حولنا، ولعل أبرز مثال ما يتعلق بالمواصلات والربط البري بين مختلف أنحاء المملكة على الرغم من البعد والصعوبة للوصول إلى كثير من المناطق، والمثال الآخر الأبرز هو المياه، فعلى الرغم من أن المملكة من أكثر الدولة شحا في المياه، إلا أن توفيرها بشكل كبير أدى إلى وصول المملكة إلى أكثر الدول استهلاكا للمياه بقياس معدلات الاستهلاك الفردي.
ناهيك عما يتعلق بالنمط الاستهلاكي الخاص بالتبذير الاجتماعي أو المباهاة، التي قد تصل أحيانا إلى زيادة الأسعار في بعض المنتجات أو الخدمات إلى 100 ضعف سعرها الحقيقي أو سعر التكلفة، وتلك العادات المسرفة التي لا تمت بصلة إلى ديننا الحنيف، ولا التعاليم النبوية بالنهي عن الإسراف والاعتدال في كل شيء، أوجدت أنماطا قد توجد أمراضا مجتمعية، خاصة بالرغبة في البروز الاجتماعي والبذخ الذي لا يأتي بخير.
إن إقرار المملكة "رؤية 2030" التي تشمل عددا من الأهداف الجيدة، إذا ما تم التركيز على تحقيقها بفاعلية، سيكون لها جانب آخر في التأثير في السلوكيات المجتمعية الاستهلاكية، ولعل المحلل لتفاصيل تلك "الرؤية" بما وضع من بعض المؤشرات والمقاييس، يلاحظ أن الدعم على الكهرباء والمياه وبعض الخدمات سيقل تدريجيا، وهذا بالتالي يجبرنا على أن نفكر في سؤال مهم: كيف يمكن أن أعدل سلوكي الاستهلاكي، كي لا يؤثر في ميزانيتي ودخلي؟، بالتالي هناك أهمية كبرى، للتفكير مثلا، في أنماط قيادة السيارات، أنماط استهلاك المياه والكهرباء والخدمات الأخرى، وتدوينها وحسابها، ومعرفة كيفية تغيير ذلك السلوك.
من الأنماط الاستهلاكية الأخرى كذلك، ما يتعلق بالغذاء والنفايات الغذائية، وكيف يمكن تقليلها والاستفادة منها، أو بحساب كمية الغذاء مسبقا قبل عمله، أو ابتكار طرق للتخزين والاستفادة من المواد الغذائية بشكل أكثر فاعلية، ظهرت في بعض الدول بعض المبادرات التي ترمي إلى الوصول إلى معدل صفر من النفايات، والسؤال هنا: ماذا لو تمت محاولة تعميم مثل هذه التجارب وقياس أثرها في البيئة وصحة الإنسان؟ لا شك أنه بمثل تلك المبادرات التي تحاول تغيير السلوك الإنساني لشكل أفضل أثر كبير في تعزيز صحته، خصوصا مع ظهور الكثير من المبادرات التي تحاول الجمع بين الرياضة والغذاء ونمط العيش الصحي، والطلب المتزايد عليها، نظرا لوجود الرغبة المجتمعية لتحسين مستوى الصحة العامة والوقاية من الأمراض.
أما على المستوى الحكومي، فهنالك الطبقات المتوسطة وأقل من المتوسطة والفقيرة، التي يجب إقرار عدد من السياسات التي تضمن عدم تأثرهم بمجموع السياسات التي تهدف إلى رفع الدعم عن السلع أو الخدمات، ذلك لأن الحفاظ على طبقات المجتمع مهم جدا، لأنه من الخطر على المستوى المجتمعي وكذلك الأمني وجود فوارق كبيرة بين الطبقات أو اختفاء الطبقة المتوسطة، ولذا أوجد كثير من دول العالم في أوروبا مثلا أنظمة لحماية طبقات المجتمع بحسب الدخل الشهري وضمان دعمها عبر السياسات أو عبر الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وتعزيز وتمكين تلك الطبقات من العيش الكريم.
إن ديننا الحنيف يأمرنا دوما بالاعتدال وعدم الإسراف، وإن عادات المجتمع و"البرادايم" الذي يأسر الشخص ويوجهه نحو الاستهلاك في حاجة إلى مراجعة وتخط، كي نضمن تحقيق سلوك صحي وسليم ومستدام، يعزز من قيمنا الإسلامية ولا يتعارض كذلك مع قيم الكرم والمروءة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي