Author

اللاجئون السوريون في السويد .. واللغة العربية

|
أستاذ جامعي ـ السويد
وضع اللاجئين في أوروبا لا يحسد عليه. هبة التسامح والكرم والسخاء التي أبدتها بعض الدول لا سيما ألمانيا بدأت تتبخر. حتى السويد، المشهود لها انفتاحها على الآخر المختلف وإيواؤه، أخذت تدير وجهها بعض الشيء للقادمين إليها هربا من الظلم والاضطهاد وطلبا للأمان والعيش الكريم. مع ذلك السويد تبقى ـــ حتى الآن في أقل تقدير ــــ في منأى عن التطرف الذي نلاحظه في الكثير من الدول الغربية وتصرفها تجاه اللاجئين. قد لا يصدق البعض، إلا أن ما نلاحظه من تطرف بعض الأحزاب السياسية والحكومات في أوروبا فاق التصور. هناك من يتشبث بالعنصر وسموه على القادمين الأجانب. هناك من يرى فيهم خطرا على الدين. وهناك من يريد طردهم عنوة وغلق الأبواب في وجوه القادمين الجدد. صار اللاجئون ـــ وجلهم من العرب والمسلمين ـــ حديث الشارع وشماعة تعلق أوروبا عليها كل مشكلاتها لا سيما بروز اليمين المتطرف والتدين المفرط لدى البعض في محيط علماني بامتياز. قد يرى الناس أن السويد أيضا بدأت تغير في سياساتها صوب اللاجئين، ولكن هذا ليس صحيحا. الموقف الإنساني لم يتغير حتى الآن. ما تغير هو أن موجة الهجرة التي واجهتها السويد أكبر من إمكانات البلد للتعامل معها بطريقة تحفظ كرامة الإنسان من حيث السكن والمأكل والملبس والحاجات الأساسية الأخرى. ويعزو المهتمون بشؤون الهجرة موقف السويد الإيجابي من المهاجرين إلى الأثر الذي تركه اللاجئون السوريون في البلد. قدوم اللاجئين السوريين إلى السويد وبأعداد غفيرة كان واحدا من الأسباب الرئيسة لتعزيز موقف الأحزاب والجمعيات التي تناصر اللاجئين وتدعو إلى عدم سد الأبواب في وجوههم. ما إن ظهر شخص يهاجم سياسة اللجوء أو كتب صحافي مقالا يندد بسياسة الحكومة في هذا المضمار، حتى انبرى له المسؤولون وعامة الناس أيضا مستشهدين بما أضافه اللاجئون السوريون من علم وثقافة ومساهمة في أماكن وجودهم في البلد. أغلب الإحصاءات تظهر أن السوريين أبلوا بلاء حسنا في السويد. فاقوا في سرعة اندماجهم في المجتمع الجديد والمساهمة في تطوره ليس أقرانهم من الشرق الأوسط بل حتى اللاجئين من أوروبا ومن ضمنهم الفنلنديون الذين قدموا بأعداد غفيرة إلى السويد هربا من الفقر وبحثا عن عمل في منتصف القرن الـ 20. وفنلندا، كما هو معروف، تشترك في كثير من الخواص الثقافية والاجتماعية حتى اللغوية مع السويد. اليوم ترى اللاجئين السوريين وقد أحرقوا المراحل الدراسية الخاصة بالاندماج في المجتمع الجديد بسرعة أذهلت مسؤولي الهجرة في البلد. وهناك دهشة وكذلك دعم غير محدود لإصرار اللاجئ السوري على تبوؤ المنصب الذي كان له في بلده قبل الهروب من جحيمها. الطبيب يصر على أن ينضم إلى النظام الصحي في السويد الذي هو الأرقى في العالم. المهندس يصر على ممارسة اختصاصه في شركات هندسية تعد من الأجود في العالم. والأستاذ الجامعي يصر على دخول سلك التعليم العالي الذي يعد واحدا من أكثر النظم التعليمية تطورا في الدنيا. وهكذا مع بقية المهن حيث يصر أصحابها على ممارسة ما كانوا يمارسونها في سوريتهم الحبيبة. والدهشة انتابت السويديين عندما رأوا أن رجال الأعمال وأصحاب المشاريع والمهن أيضا يصرون على ممارسة أعمالهم وأن الكثير منهم وصل إلى مبتغاه ويدير أعمالا خدمية وتجارية وصناعية بنجاح. إذا ما هو سر النجاح الباهر الذي حققه اللاجئون السوريون في السويد؟ تشير بعض الدراسات إلى أن السر يكمن في نظام التعليم في سورية الذي تم تعريبه من ألفه إلى يائه منذ عقود. اللاجئون السوريون الذين أخذوا بألباب السويديين تلقوا كل تعليمهم لا سيما الجامعي منه باللغة العربية، أي اللغة الأم. هذا في نظر السويديين المهتمين بشؤون اللاجئين هو السر في النجاح الباهر الذي حققه اللاجئون السوريون في السويد. والنجاح هذا سيكون مدار بحث ودراسة في الجامعات السويدية لسنين طويلة لأنه يقدم الدليل على أن السياسية التعليمية في السويد التي تستند إلى اللغة الأم سياسة ناجعة. لقد وضع علماء التربية في السويد نظرية مفادها أن التعلم باللغة الأم وامتلاك ناصيتها يزيد من استعداد وذكاء التلاميذ في اكتساب العلم والمعرفة والمهارات ويوسع أفقهم ويمكنهم من مواجهة مصاعب الحياة والولوج في متاهاتها باطمئنان وسكينة. وأكد هؤلاء العلماء أن المادة العلمية والتربوية التي يتلقاها التلامذة باللغة الأم يتم استيعابها بيسر وكذلك فإنها تبقى محفوظة في لوح الدماغ وفي الإمكان العودة إليها وممارستها بسهولة. والسويد اليوم تنفق مئات الملايين من الدولارات ليس على تدريس السويدية ـــ اللغة الوطنية ــــ بل تدريس اللغة الأم لكل لاجئ يقدم إلى السويد حتى وإن كان الصف يتألف من طالب واحد. أقول هذا وفي نفسي غصة وأنا أرى أن دور اللغة العربية آخذ بالأفول في كثير من البلدان العربية لا سيما الخليجية منها حيث يتباهى الآباء والأمهات بكون أولادهم يتلقون تعليمهم ودروسهم في المدرسة الإنجليزية المستوردة من الخارج باللغة الإنجليزية.
إنشرها