سلوك الإنسان .. هل نستطيع تطويره؟

يؤثر الإنسان فيما يقوم به من عمل على ذاته وعلى من حوله، وهو يتأثر بالطبع بأعمال الآخرين. ويعتمد مثل هذا التأثير والتأثر على الأعمال المطروحة وطبيعتها وعلى مكانة أصحابها؛ كما يعتمد أيضا على سلوكهم في أدائها. وهناك صفات عديدة لسلوك الإنسان في الحياة بينها صفات محمودة مرغوبة إيجابية التأثير، وبينها أيضا ما هو مغاير لذلك. وكم يكون تأثير السلوك إيجابيا حينما يتصف باللباقة، والكلمة الطيبة، والتعاطف مع الآخرين، وإغاثة الملهوف، وحِس العدل، وتوخي الحكمة، وما يتوافق مع ذلك من صفات؛ وكم يكون تأثير السلوك سلبيا حينما يتصف بصفات معاكسة لهذه الصفات.
السلوك الإيجابي مسؤولية اجتماعية تقع على عاتق كل منا، حتى في الحالات التي لا نستطيع فيها الاستجابة لمتطلبات الآخرين واحتياجاتهم، فهو في مثل هذه الحالات تخفيف لوطأة عدم القدرة على الاستجابة المطلوبة. ولا شك أن بيئة التوافق والسعادة في المجتمع تكون أكبر حينما يكون سلوك الجميع تجاه الجميع إيجابيا في كل ما يقومون به من أعمال، في حياتهم الاجتماعية، وفي ممارساتهم المهنية.
ولعله يمكن القول إن للسلوك الإيجابي للإنسان جانبين: جانب عام يرتبط بمختلف نواحي الحياة، ويشمل الصفات السابقة وما يماثلها؛ وجانب خاص يرتبط بالموضوع المطروح أو الحالة المأخوذة في الاعتبار. ومن أمثلة سلوك الجانب الخاص سلوك الإنسان في قيادة السيارة؛ وسلوكه في استهلاك الطاقة؛ وفي استهلاك المياه؛ وفي حماية البيئة؛ وفي استخدام وسائل الاتصال وتقنيات المعلومات؛ وفي حماية أمن هذا الاستخدام؛ وفي التعامل مع الشبكات الاجتماعية على الإنترنت؛ وفي الالتزام بالعمل المهني؛ والالتزام بالواجبات الاجتماعية؛ والالتزام بتجنب إضرار الذات وتعاطي المخدرات؛ وغير ذلك من الموضوعات والحالات المختلفة.
وهناك مبادئ عامة لدراسة واقع سلوك الإنسان في مختلف الموضوعات والعمل على تطوير هذا السلوك نحو الأفضل. ومن أهم هذه المبادئ دراسة هذا السلوك على أساس ثلاثية "المعرفة، والموقف، والممارسة KAP" لدى الإنسان، في أي موضوع من الموضوعات التي يطلب طرحها. والمقصود هنا هو بيان: ماذا "يعرف Know" الإنسان صاحب العلاقة عن الموضوع المطروح؛ وما "موقفه Attitude" تجاهه؛ ثم كيف "يتصرف Practice" حياله. ويتم التعرف على هذه الأمور عبر دراسات مسحية ميدانية لأصحاب العلاقة بهذا الموضوع.
وانطلاقا من التعرف على واقع سلوك الإنسان تبعا لما سبق، تتركز الجهود نحو تطوير هذا السلوك. وهناك في هذا الإطار ثلاثية أخرى لذلك هي "ثلاثية: "الدعم Advocacy" بمعنى دعم التوجه نحو التطوير ماديا ومعنويا؛ و"التواصل Communication" بمعنى توعية أصحاب العلاقة والشراكة المعرفية معهم في هذا الشأن؛ ثم "الحراك الاجتماعي Social Mobility" بمعنى تعبئة أصحاب العلاقة في البيئة المحيطة بأهمية التوجه نحو تطوير السلوك في الاتجاه المطلوب.
وقد اهتمت "منظمة الصحة الدولية WHO" بالثلاثيتين السابقتين في إطار تطوير سلوك الإنسان تجاه الأمراض المختلفة، بما يشمل: سلوك المرضى أنفسهم؛ وسلوك الطاقم الطبي المعالج لهم؛ إضافة أيضا إلى سلوك من حولهم. والغاية من مثل هذا التطوير هي بالطبع التخفيف من معاناة المرضى، إضافة إلى حصر المرض والحد من انتشاره. وقد أصدرت المنظمة دليلا لدراسة السلوك في مثل هذه الحالات، ركزت فيه، كمثال، على "مرض السل TB" المعدي الذي ما زال يهدد بعض مناطق العالم.
ولا شك أن جميع المجتمعات تحتاج إلى تطوير سلوك الإنسان نحو الأفضل، في كل من جانبيه: الجانب العام المرتبط بمختلف نواحي الحياة؛ والجانب الخاص المتعلق بهذا الموضوع أو ذاك، أو بهذه الحالة أو تلك. ولا بد في مسيرتنا نحو التنمية والتقدم، والاعتماد في ذلك على الإنسان، من أن نولي هذا الأمر الاهتمام الذي يستحق. نحتاج، من أجل ذلك، إلى دراسات مسحية ميدانية تلقي الضوء على واقع "المعرفة والموقف والممارسة" لدى الناس في مختلف الموضوعات؛ ثم نحتاج إلى التطوير المنشود عبر توفير "الدعم والتواصل والتعبئة الاجتماعية".
نريد من "الدعم والتواصل والتعبئة الاجتماعية" تأثيرا في "المعرفة والموقف" وصولا إلى "الممارسة" المنشودة التي تمثل السلوك المستهدف. ولمناقشة التأثير المطلوب، لعلنا نعود إلى "منظومة التفكير" التي طرحناها في مقالات سابقة؛ فالتفكير بمعطياته المختلفة وبيئته المحيطة موجه رئيس لسلوك الإنسان. تشمل هذه المنظومة ثلاثية أخرى هي "منطلقات" التفكير؛ و"رؤية" مشهد الحالة المطروحة؛ إضافة إلى تحديد "المعالجة" المطلوبة؛ أي اتخاذ القرار أو السلوك، كما يجب أن يكون، كل ذلك في إطار "البيئة" المحيطة بالموضوع المطروح.
تتأثر منظومة التفكير "بالمعرفة" المتاحة، فلا بد من السعي إلى توفير هذه المعرفة، وتعزيز استيعاب مضامينها. ويحتاج هذا الأمر إلى "الدعم" وإلى "التواصل"، بما في ذلك التوعية والشراكة المعرفية مع أصحاب العلاقة. ولعله من المفيد الإشارة هنا إلى ضرورة التركيز على المعرفة المفيدة بشأن الموضوع المطروح، كي تتمتع المنظومة بالمرجعية المعرفية المناسبة. ويمثل ذلك مبدأ مهما من مبادئ ما يعرف "بإدارة المعرفة".
ويضاف إلى ما سبق أن منظومة التفكير لا تتأثر بالمعرفة فقط، بل إن للتوجه الشخصي والعاطفة الشخصية دورا مهما فيها أيضا. "فمنطلقات" منظومة التفكير ليست دائما منطلقات معرفية، كما أن "المعالجة" ليست دائما موضوعية، إضافة إلى دور "البيئة" المهم في هذا الأمر، وهذا ما يجب أخذه في الاعتبار. وهنا يبرز التأثير في المنظومة من خلال الحراك المجتمعي أو "التعبئة الاجتماعية" مقرونة "بالتواصل" من أجل تطوير السلوك في الاتجاه المطلوب.
إن تطوير السلوك أمر ممكن، ولا بد لهذا التطوير أن يكون دائما نحو الأفضل. وهناك، في هذا المجال معايير رئيسة ثلاثة: أولها "منطلقات مكارم الأخلاق"؛ وثانيها "المعرفة المفيدة في رؤية المشهد المطروح"؛ وثالثها "توخي الحكمة" في معالجة الأمور والتوجه نحو اختيار "السلوك الأفضل".
نأمل أن نسمع الكلمة الطيبة من كل إنسان، أن نجد حس العدل عنده ناميا، أن نجده ملتزما بواجباته، حريصا على خير المجتمع. نأمل من كل إنسان المحافظة على البيئة، والمحافظة على الصحة، والابتعاد عن كل ما يضر بها؛ نأمل منه عدم الإسراف في أي ناحية من نواحي الحياة، في استهلاك المياه، أو في استهلاك الطاقة، أو أي استهلاك آخر للمصادر المختلفة المتاحة. نأمل من كل سائق سيارة أن يلتزم آداب الطريق وقواعد المرور من أجل المجتمع، بل ومن أجل ذاته أيضا. نأمل حياة واعية مشتركة أفضل، يكون لكل منا فيها دور إيجابي.. فهل نحن عازمون؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي