الإسكان .. ما بين تراكمات الماضي وتعقيدات الحاضر

امتدادا لما طرحته في مقالاتي السابقة وتأكيدا لما ورد بها من مقترحات، سأخصص مقال هذا اليوم لقضية الإسكان التي لا تزال مجال حديث المجالس منذ فترة طويلة. وهذا ليس مستغربا، لأن السكن من ضروريات الحياة التي لا ينبغي التهاون بها. فتوافر المسكن المناسب يؤثر – إيجابا - في صحة أفراد الأسرة، ويرفع تحصيلهم الدراسي، ويزيد من سعادتهم. لذا يروى عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق».
لا شك أن مشكلة الإسكان ليست وليدة الحاضر، وإنما تضرب جذورها في عدم فاعلية خطط التنمية السابقة في تحقيق التنمية المكانية المتوازنة التي تسهم في الحد من الهجرة إلى المدن الكبرى، وكذلك عدم قدرتها على التنبؤ بتفاقم الطلب على الإسكان في وقت مبكر. ومن جهة أخرى، أثبت معظم الأمانات فشله في الالتزام بالتخطيط الحضري الفاعل، فقد أهملت مخططات المنح ردحا من الزمن دون خدمات، وأهملت الأراضي المحيطة بالمدن، التي تحول بعضها إلى منح للمتقدمين عليها بالطرق الرسمية، ومن ثم خنق المدن باحتكارها والحد من المساحات المفتوحة بها، وذلك لتحقيق أرباح خيالية على حساب جيوب الموظفين المضطرين لتوفير السكن لأسرهم، والمفارقة العجيبة أن الأراضي المحيطة بالمدن الكبيرة مملوكة ملكية خاصة، في حين أن الأراضي المحيطة بالمدن الصغيرة ملكيتها حكومية في معظمها!
لا يحتاج الأمر إلى مختص ليكتشف أن الأمانات لم تكن لديها المرونة الكافية للتعامل مع زيادة الطلب على الإسكان، بل إن كثيرا من الأمانات لم تستوعب وجود مشكلة الإسكان وتفاقمها، إلا بعد أن طفح الكيل و"وقعت الفأس في الرأس"، وذلك بعد أن احتلت المشكلة أولوية وطنية وتفاعلت معها القيادة العليا. ولا أعتقد أن وزارة الشؤون البلدية والقروية بريئة من "دم يوسف" كما يقال. فالوزارة الموقرة لم تقدم الدعم الفني ولم توفر الخبرات والتدريب في مجال تخطيط المدن لمساعدة الأمانات والبلديات في المدن الكبيرة والمتوسطة والصغيرة في وضع المخططات المناسبة لاحتياجات كل مدينة، بل خضع كثير منها للتخطيط بأسلوب "المحاولة والخطأ" الذي يظهر – جليا - في كثرة التعديلات على الطرق والمرافق وكذلك في التأخر في توزيع الأراضي السكنية. وتواجه قرارات تطبيق الرسوم ضعف البنية التحتية الضرورية، ومن ثم احتمالية التلاعب، وعدم القدرة على زيادة العرض من الأراضي بدرجة تؤثر في السعر.
وفي ضوء مناقشات مجلس الشورى الموقر للرسوم المقترح فرضها على الأراضي البيضاء، أقترح ما يلي:
أولا: لا ينبغي أخذ عدم اكتمال السجل العقاري سببا في عدم تبني حلول مناسبة ونوعية، بل ينبغي أن تكون الحاجة إلى تنظيم العقار سببا جوهريا في حث وزارة العدل على إنجاز المشروع الذي طال انتظاره على الرغم من البدء في تنفيذه منذ سنوات.
ثانيا: ينبغي ألا يكون تقاعس الأمانات عن توفير الخدمات للمخططات التي تقع داخل النطاق العمراني مبررا لعدم فرض الرسوم على الأراضي الكبيرة داخل النطاق العمراني التي لا تتوافر بها الخدمات.
ثالثا: ينبغي ألا تكون صعوبة ضبط إجراءات الرسوم سببا لقبول الأمر الواقع، بل ينبغي أن تكون دافعا لتنظيم سوق العقار.
رابعا: كما أشرت في مقال سابق، لا بد من السعي الحثيث لإنشاء ضواحي المدن، وذلك لقطع الطريق على احتكار الأراضي، وربط الضواحي بشبكة متطورة من النقل العام.
خامسا: من الضروري تسهيل وصول الشركات الأجنبية المتخصصة في الإنشاءات لتخفيض تكاليف البناء ورفع جودته، خاصة ارتفاع الأسعار وانخفاض جودة المعروض.
سادسا: من المناسب أن تقوم الأمانات والبلديات بتوفير نماذج للمساكن الاقتصادية المواكبة لأساليب العمارة الحديثة، وذلك للمساعدة في خفض تكاليف الإنشاء والحد من هدر مدخرات الأسر.
سابعا: تفعيل القرارات السامية التي تمنع تملك الأراضي الحكومية والشواطئ بصرامة كي تبقى بقية للأجيال القادمة، إذ يبدو أن هذا الجيل لا يفكر في أجيال قادمة تشاركه في الموارد!
أخيرا، لتجنب إيجاد بؤر "إسكان" منعزلة، ينبغي شراء مبان ومساكن داخل الأحياء القائمة وتوزيعها حسب الاستحقاق، ما سيسهم في حل جزء من المشكلة بشكل عاجل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي