أنصفوا الموظف الكفء

حُرم الموظف الأكثر إنتاجية وكفاءة، أن يراه مديره كل ساعة، ذلك أنه مهتم بالدرجة الأولى بإنهاء ما لديه من مهام وأعمال ومسؤوليات، وقد ينعكس ذلك الضغط العملي على وجهه ونفسيته وطريقة حديثه حتى مع مديريه الأعلى منه، فلا تجد للغة التملق والنفاق مكانا في قاموسه. ويزداد الأمر صعوبة على كاهل الموظفين الأكفاء، إذا ما ابتلوا في بيئة أعمالهم بمديرين يبحثون عن المطيع فقط، وبزملاء غير منتجين، لا هم لديهم سوى التملق لدى هذا المدير وفعل كل ما يريده دون قيد أو شرط!
فالمدير يظن ظن السوء أن مجرد طاعته والاستجابة لأوامره، دون مراجعة لسلامتها وتوافقها مع النظام المعمول به، ومع المصلحة العامة في المقام الأول، فهو يظن بذلك أنه قد ضمن بقاءه على كرسي الإدارة والمسؤولية، وأن الأمور تسير كما زينت له رؤيته الضيقة والقاصرة. أما الموظف المتملق المنبطح عند تلك النوعية من المديرين، فلا يرى طريقا للترقية والصعود وزيادة راتبه وبدلاته المالية، إلا هذا الطريق! وقد لا تجد له أي أثر في أداء الأعمال والمسؤوليات الموكلة إليه، وكيف له أن يفعل ذلك وأغلب وقته أثناء العمل وحتى خارجه، مسخرٌ فقط لتتبع إرضاء مديريه المباشرين.
وسط بيئة عمل ضمت هذين الصنفين من البشر، مدير مستبد برأيه وقراره، سواء عن جهل منه أو علم لا فرق بين الحالتين! وموظف انبطح في طاعة عمياء خالية من الأمانة والمسؤولية وحتى الكرامة لهذا الصنف من المديرين، في رأيك كيف لبيئة عمل كهذه أن ترى منها خطوة إنجاز؟ وكيف لها أن تنصف موظفا كفؤا ومنتجا في عمله؟ وما المستقبل الذي ينتظرها، غير أن يأتي ذات يوم ليحل هذا الموظف المتملق محل مديره المستبد بعد تقاعده؟ وكيف ستخرج هذه الإدارة أو الجهاز المبتلى بمثل هذه الأصناف من البشر من دوامة الفشل الذريع الذي تدور في متاهته؟
كل هذا سينعكس سلبا على أداء الإدارة أو الجهاز دون أدنى شك، وسيترتب عليه ظلم فادح للكفاءات البشرية المنتجة فيها، فإما أن تستسلم لأمر الواقع المرير، ويترسب في داخلها اليأس والإحباط، وهو ما قد يتطور مع تقدم أعمار الموظفين الأكفاء، إلى إصابتهم بأمراض نفسية، وأمراض الضغط والسكري وغيرها من الأمراض المزمنة، وإما أن يبدأ الموظف الكفء بالدخول مع مديريه وزملائه في صدامات وصراعات طاحنة، ستنعكس سلبا على الأداء الوظيفي والإنتاجية، وغالبا ما تنتهي مثل هذه الصراعات باستقالة هذا الموظف الكفء، أو انتقاله إلى إدارة أخرى، وقد تلحق به اتهامات تطارده ما دام حيا؛ بأنه موظف متمرد لا ينصاع للأوامر، أو أنه موظف مشاغب يبحث فقط عن إثارة المشكلات والصراعات داخل أي بيئة عمل ينتمي إليها. بالطبع لا أحد يسأل أثناء ترويج مثل هذه الشائعات عن مصدرها، وكيف أنها نشأت في الأصل عن خصومه الذين تورطوا في وحل الفشل وعدم الكفاءة والمسؤولية.
إني لأرجو ألا يبعث الحديث الأخير أعلاه، اليأس في نفوس الموظفين والموظفات الأكفاء، وألا يقفوا أبدا يائسين أو عاجزين عن القيام بما يجب من أداء مهام أعمالهم على أكمل وجه، وفي الوقت ذاته أن يقاوموا بكل قوة لديهم الاستسلام لضحالة وتردي بيئة أعمالهم، بل لا بد من اتخاذ جميع الإجراءات التي لا تخالف النظام لديهم، من أجل المحافظة على أمانة مواقعهم العملية، والعمل على تطوير أداء الإدارة أو الجهاز الذي ينتمون إليه، وألا يخذلهم أبدا وجود مدير مستبد يبحث عن طاعة عمياء، ولا ابتلاؤهم بزملاء سوء لا هم لديهم إلا التملق والهروب من أداء واجباتهم.
إن مجرد الحديث علنا عن مخاطر مثل هذه السلوكيات وانتشارها في بيئات أعمالنا، كفيل وحده أن يبعث الخوف والقلق في نفوس تلك الأصناف من البشر، وهل لدى أي منهم ذرة شجاعة للدفاع عن تورطه في ارتكاب مثل تلك السلوكيات؟ ولو كان أي منهم يمتلك جزءا بسيطا منها، لما رأيت هذا المدير يجزع كل الجزع من مجرد مخالفته الرأي من أحد موظفيه، ولما رأيت هذا الموظف المتخاذل المتملق ينحني دون كرامة أمام تسلط إنسان مثله، لا فرق بينهما إلا أنه أعلى منه مرتبة أو منصبا! فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه أبدا، وكذلك الخطأ لا يمكن له أن يدوم أكثر مما دام، والتغيير والإصلاح والتطوير إذا لم يأت ممن أهل له من ذوي الكفاءات والخبرات والمعرفة والدراية، وقبل كل هذا ممن يتحلى بالأمانة والإخلاص، فمن أين يا ترى سيأتي التغيير والإصلاح؟
ليس على الجهات العليا في أي موقع من مواقع الأعمال، في القطاع الحكومي أو في القطاع الخاص أن تقف مكتوفة الأيدي تجاه ما يخضع لها ويتبعها من إدارات ووحدات أدنى منها، فلا بد أن تبادر على الدوام بتطوير آليات الأعمال لديها، والتحسين المستمر والدؤوب لأدوات الرقابة والمراجعة، وأن تتقصى بالطرق التي تراها مناسبة عن طبيعة أداء الأعمال والمهام لدى ما دونها من جهات وإدارات، وأن تفتح قناة اتصال مباشرة مع جميع منسوبيها من العاملين والعاملات، وأن تكفل لهم الحماية والسرية تجاه كل ما يتم تداوله عبر قنوات التواصل تلك، وأن توضع لها الضوابط والآليات المنظمة، التي تكفل في الوقت ذاته عدم تحولها إلى قنوات كيدية، ما يحولها كثيرا عن الهدف الرئيس من إيجادها.
يجب أن تنقشع غيوم البلادة والتعتيم عن بيئة العمل، وأن تعتمد منطق التغيير المستمر نحو الأداء الأفضل، وسرعة الإنجاز، والنزاهة والعدالة والمساواة دون أي تمييز من أي نوع كان، والعمل على مكافأة المحسن متى ما أحسن، ومعاقبة المقصر والمسيء متى أخطأ. قد تكون هذه مثالية مفرطة في ظن البعض، وليكن ذلك! إلا أنها الشروط اللازمة والحد الأدنى لنجاح وتقدم أي بيئة عمل، عدا ذلك لا أقل من القول على الدنيا السلام. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي