انهيار أسعار النفط والحاجة لتنويع مصادر الدخل (2 - 4)

المعلومات اليقينية والمتواترة عاما بعد عام، تشير بشكل مؤكد، لا لبس فيه، إلى استمرار اعتماد اقتصاد المملكة العربية السعودية شبه الكلي على إيراداتها من إنتاج النفط وبيعه، وبالتالي أسعاره التي الآن تمر بمرحلة انخفاض حاد، ما يزيد الضغط على الموارد والمدخرات المالية للمملكة، حيث تتكبد المملكة خسائر جمة في إيراداتها غير المحققة، ربما تصل إلى ثلث إيراداتها النفطية هذا العام وفقاً لتقرير أعده مصرف سيتي Citi. كما أن تقريرا نشره صندوق النقد الدولي أخيرا، أشار إلى أن المملكة في هذا العام متجهة لتكبد خسارة في إيراداتها غير المحققة تبلغ نحو 138 مليار دولار. وما يهمنا هنا هو إيجاد وسيلة فعالة وعاجلة لفك الارتباط العضوي لتخفيض اعتماد اقتصاد المملكة شبه الكلي على عوائد النفط، والحيلولة دون تآكل مدخرات المملكة المالية بسبب تراجع الأسعار، ما يستدعي تبني استراتيجيات فعالة وبأقل التكاليف للتخفيض التدريجي لتلك النسبة الكبيرة من اعتمادنا على عائدات البترول، مع الاستمرار في تنفيذ الخطط التنموية المستدامة، ولاسيما أن الملاحظ أن نزول أسعار البترول يؤثر تأثيرا إيجابيا في نمو الاقتصاد العالمي وازدهاره، ما يعني اغتنام تلك الفرصة والاستفادة من تلك الدورات الاقتصادية لاستثمار أموال الاحتياطي العام في وقت الازدهار الاقتصادي لتحقيق عوائد مجزية ومردود عال يعوض انخفاض الإيرادات غير المحققة بسبب انخفاض أسعار البترول.
وفي هذا المقال سنلقي الضوء على أهمية التحوط وعلى وجه السرعة من انخفاض أسعار النفط، وذلك بتبني استراتيجية سريعة وفعالة لخفض الاعتماد على عائدات الإيرادات المالية من النفط، وفي مقالات لاحقة سنتطرق إلى الخطط الاستراتيجية على المديين المتوسط والبعيد للانتقال التدريجي إلى مرحلة تنويع مصادر الاقتصاد المستدامة وإدخال تغييرات جذرية في بنية الاقتصاد الوطني لتقليل النسبة العالية من اعتمادنا على العائدات النفطية.

الحاجة لتطبيق خطة استراتيجية آنية
المملكة الآن في أمس الحاجة إلى وضع استراتيجية وتبنيها سريعا لحماية احتياطياتها المالية من الانخفاض والتآكل، ولتوفير دخل سنوي غير مرتبط بأسعار البترول المتذبذبة لتحقيق مزيد من الاستقرار الاقتصادي، وذلك بإنشاء هيئة استثمارية لإدارة واستثمار الاحتياطي من عائدات النفط الذي فاقت فوائضه المالية نحو 762 مليار دولار في نهاية العام المنصرم، وحتى لا تتآكل وتتلاشى تلك المدخرات التي تحتل في الوقت الحالي المرتبة الثانية عربيا والرابعة عالميا من حيث الحجم.
إن تأسيس هذه الهيئة الاستثمارية لإدارة واستثمار الاحتياطي أو بما هو متعارف عليه الآن صندوق الثروة السيادية لهو أهم الوسائل للاحتفاظ بالثروة المتراكمة لتحقيق عوائد أعلى من العوائد الضئيلة التي تتحقق على الاحتياطي الرسمي للمملكة في الوقت الحاضر، فمهمة هذا الصندوق السيادي المقترح إدارة الفوائض المالية للمملكة من أجل الاستثمار الأمثل وذو عائدا مجز كمثيلاته من الصناديق السيادية، التي تستثمر ثروتها باحترافية وخبرات عالية وبشفافية ومراقبة فعالة، وفي أدوات متعددة ومتفاوتة وأجهزة استثمارية متفاوتة المخاطر لتحقق عوائد مجزية.
والصناديق السيادية ليست ظاهرة جديدة، بل يعود تاريخ بعضها إلى منتصف القرن المنصرم، وكان تأسيس صندوق الكويت السيادي هو أول الصناديق السيادية تأسيسا في عام 1953.ومع نجاحها الباهر في تحقيق عوائد مجزية عبر التاريخ، بدأت معظم دول العالم في تبنيها أخيراً واستحوذت تلك الصناديق على استثمارات كبيرة حتى شملت استثمارات في كل القطاعات والهيئات العملاقة، وفي جميع أنحاء العالم. وتأتي الصين في المرتبة الأولى، حيث بلغت قيمة صناديقها السيادية نحو تريليون وتسعمائة مليار دولار أمريكي. وتتفاوت الأرقام التي تحدد موجودات تلك الصناديق بشكل واسع، ومن الصعب تقديرها نظرا لأن عددا كبيرا منها لا يعلن عن حجم أمواله، ولكن بعض التقديرات تبين أن الحجم يقدر بسبعة تريليونات ونصف التريليون دولار، وبحسب تقديرات «ستاندرد تشارتر» فإن حجم موجودات الصناديق السيادية يعادل 12 في المائة من إجمالي القيم المتداولة في بورصة نيويورك فقط.
وفي السابق كان التحدي الأساسي بالنسبة للصناديق السيادية تحفظ الدول المستقبلة للاستثمارات، وبالتالي الخشية أو القلق على مصير الاستثمارات السيادية، ولكن كل هذه التحديات والمخاوف تبددت وتلاشت بعد الأزمة المالية عام 2008م، حينما قلص معظم المستثمرين الآخرين من الاستثمار في السوق الأمريكية جراء المخاوف من احتمال تعرض الاقتصاد الأكبر في العالم للركود خلال الأزمة المالية، في الوقت الذي تسارعت الصناديق السيادية إلى ضخ الأموال في بنية الاقتصاد الأمريكي، الذي تعافى بعد وقت قصير بفضل استثمارات الصناديق السيادية، ما جعل تلك الصناديق مرحبا بها وقوة إيجابية في الاقتصاد الدولي والمحلي.
وعلى النقيض تماما من الدول الخليجية، المملكة لم تنشئ صندوقا سياديا تديره باستقلالية وبحرفية لتستثمر من خلاله فوائضها النفطية في الأسواق الأجنبية الذي بلغ حجم الاحتياط لديها من حيث المبالغ المالية المرتبة الرابعة عالميا، فالمملكة ما زالت تضع معظم احتياطياتها الأجنبية تلك في أدوات مقومة بالدولار الأمريكي منخفضة العائد جدا، بل سلبية في بعض الأحيان مثل سندات الخزانة الأمريكية وحسابات مصرفية لا تدر أي عائد يذكر. بينما الدول الأخرى التي تدير صناديقها السيادية تحقق عوائد تصل إلى 10 في المائة، أي أنه إذا تحقق تأسيس صندوق سيادي للمملكة، فإنها ستتمكن من إدارة فوائضها المالية في أدوات مالية كثيرة وبعملات عالمية متعددة، ما سيحقق لها أرباحا سنوية بمعدلات ضخمة وكمثيلاتها من الصناديق السيادية الأخرى تحقق ما بين 8-10 في المائة عائدا في العام، وذلك لتنوع استثماراتها في الأسواق والعملات العالمية، وبالتالي فإن العائد السنوي سيقفز من ثلاثة مليارات دولار أمريكي كما هو الحال الآن إلى نحو ستة وسبعين مليار دولار سنويا أو ما يشكل نحو 30 في المائة من الإيرادات المالية للمملكة، حيث بلغت الميزانية لعام 2015 مائة وتسعين مليار وسبعمائة مليون دولار يشكل الواردات المالية النفطية منها نحو 90 في المائة، أي أن اعتمادنا على الواردات النفطية سينخفض وبشكل تلقائي وعلى المدى القصير، أي بعد عام من إنشاء الصندوق، إلى 60 في المائة. وبالتالي توفير دخل سنوي للمملكة غير مرتبط بأسعار البترول المتذبذبة، ما يحقق مزيدا من الاستقرار الاقتصادي للمملكة واستمرار تنفيذ خططها الاقتصادية المستدامة، وكذلك مرونة أكثر في تبني سياستها النفطية المستقلة.
وتأسيسا على ذلك فالتحوط من انخفاض أسعار النفط بشكل فوري يجب أن يكون من جل اهتماماتنا في الوقت الحاضر والعمل وبشكل سريع على وقف تآكل أصول المدخرات والاحتفاظ بها كأصول لعوائد تستخدم لتخفيض اعتمادنا على الموارد النفطية إلى مستويات الـ 60 في المائة من خلال العائدات الاستثمارية لمدخراتنا المالية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي