المواطن .. المستثمر .. المخطط الاقتصادي

لا توجد وصفة سحرية يمكن الاعتماد عليها في مواجهة أي تقلبات أو تطورات متسارعة، كما هو قائم الآن على المستوى الاقتصادي والمالي عالميا ومحليا، لكن توجد أساسيات معينة تتمتع بدرجة أعلى من الثقة بها مقارنة بغيرها من الحيثيات الوقتية، التي قد تنفع اليوم لكنها قد تنقلب عليك في الغد القريب.
سواء كنت مستهلكا أو مستثمرا في أي سوق كانت أو مخططا اقتصاديا، كل له الأساسيات التي يجب أن يعود إليها. في إطار مواجهة تشكل شكلا آخر مختلفا من الواقع الاقتصادي والمالي وحتى الاجتماعي، لا يمكن أن تنجح في التكيف مع الأنماط الجديدة التي تتشكل الآن لتصبح هي الأنماط المسيطرة في المستقبل القريب؛ وأنت تقف ثابتا لا تتحرك أنملة واحدة عن موطأ قدميك الآن!
المستهلك؛ يقع عليه دور كبير، ومسؤولية أكبر تجاه تدبير قضاياه المعيشية بما يتوافق مع قدرته من حيث الدخل، ومن حيث قدرته على تحمل أعباء قروض شراء أي أصل ثابت كالسيارة أو المسكن، ومن حيث إدارة نفقاته الاستهلاكية الأخرى. تبدأ مهمته الأولى في جانب الدخل من ضرورة المحافظة على مصدر دخله الراهن (وظيفته)، وأن يحسن من أدائه وعمله، وأن يدرك أن اتخاذ قرار الانتقال من عمل إلى آخر في الظروف الراهنة والمحتملة مستقبلا يحمل مخاطر أكبر، ما يجب عليه دراسة قراره قبل اتخاذه فعليا بأعلى الدرجات من الحيطة والحذر، وأن يتجاوز اعتبار مجرد زيادة الأجر الشهري، إلى ما هو أبعد من حيث مدى توافقه مع بيئة العمل الجديدة، ومستوى مهاراته وخبرته، إضافة إلى اعتبارات أخرى تتعلق بالعمر ومتطلبات الأسرة وهل سيضطر إلى تغيير مسكنه، وهذا ليس ردعا للطموح المشروع بقدر ما أنه زيادة في التحوط تجاه التقلبات المحتملة مستقبلا نتيجة تراجع دخل الاقتصاد على مستوى نشاطاته وقطاعاته المختلفة، فقد تنتقل من عمل بشركة إلى أخرى، سرعان ما تجد الأخيرة وقد انقلب وضعها المالي رأسا على عقب نتيجة تلك التطورات، وهيهات حينها أن تجد مخرجا من هذه الأزمة التي قد تتورط فيها ـــ لا قدر الله.
المهمة الثانية على المستهلك في خصوص حدود قدرته على الاقتراض لتمويل شراء سيارة أو مسكن؛ كما يرى أن الاقتصاد يتحرك من مرحلة غلب عليها تضخم الأسعار أكثر من أي عوامل أخرى، والاحتمالات الأقوى في الوقت الراهن، تشير إلى أنه يتجه نحو انحسار تلك الموجات التضخمية، وأن التراجع في الأسعار سيطغى على أغلب السلع المعمرة والخدمات، مع اختلاف التوقعات تجاه السلع الاستهلاكية والأغذية بين ما قد يرتفع سعره أو قد ينخفض، إلا أن الاعتبار هنا يتركز على السلع المعمرة والمساكن، كونها الأصول التي في الغالب سيضطر المستهلك إلى الاقتراض بهدف شرائها، فحينما تتمول بمبالغ طائلة قد يستغرق سدادها بالنسبة لك من خمسة أعوام إلى 20 عاما مقبلة، وينحصر بناء قرارك فقط على معدل الفائدة، دون النظر إلى الاحتمال الكبير بتراجع قيمة هذا الأصل، فهذا فيه تهور بعيد!
ويزداد الأمر أهمية في حال كان الأصل المستهدف بالشراء (مسكنا)، فإن كان توقيت الشراء في بداية موجة يتوقع لها الارتفاع في الأسعار، فهذا دون شك سيكون قرارا صائبا جدا، غير أنه سيكون خاطئا جدا في حال كنت على أعتاب دورة اقتصادية جديدة تنبئك بتراجع قادم ومستمر لعدة أعوام. فما قد تتحمل أعباء قروضه وفوائده الطائلة اليوم بنحو 2.1 مليون ريال (سعره نقدا على سبيل المثال 1.4 مليون ريال، بفائدة 2.5 في المائة، لمدة 20 عاما)، يعني أنك ستكون ملتزما بسداد قسط شهري 8750 ريالا طوال 240 شهرا مقبلة. بينما مع بدء تراجع الأسعار الراهن، والمتوقع استمراره للأعوام المقبلة، قد تحظى بشراء ذلك المسكن بأقل من قيمته بحدود 40 في المائة، وهذا يعني حتى وإن ارتفعت الفائدة إلى 3.5 في المائة على سبيل المثال، قد حققت فائدة مالية مهمة بالنسبة لدخلك، يكفي الإشارة هنا إلى أن القسط الشهري سينخفض إلى 6900 ريال (توفير 1800 ريال شهريا، أنت الأولى بها).
بالنسبة للمستثمر؛ لن أتوسع أكثر من اللازم بما يجب عليه القيام به، ودون الخوض في تفاصيل معقدة، إلا أن التذكير بالنسبة للمستثمر في سوق الأسهم يتجدد مرة أخرى، بضرورة توجيه استثماراته نحو أسهم الشركات ذات العوائد المتنامية، والتوزيعات المنتظمة، وبما أن الفترة المقبلة ستكون متسمة بالتقلبات الخارجية؛ أن تتركز قراراته على الشركات العاملة في قطاعات تعتمد على الطلب المحلي أكثر من الخارجي، كقطاع التجزئة والتطوير العقاري والزراعة الصناعات الغذائية كأهم الخيارات الاستثمارية المتاحة أمامك، وعدم التسرع في الدخول والتخارج من الأسهم، وأن يكون تمويل الاستثمار من الادخار فقط، والأموال التي لن يستدعي منك تسييلها لعدة أعوام مقبلة، والابتعاد تماما عن الاقتراض بهدف الاستثمار مهما كانت الإغراءات الموضوعة أمامك. أما بالنسبة للمستثمر في القطاع العقاري؛ فقد تأتي الرياح خلال الفترة المقبلة عكس ما كانت عليه سابقا، ما يفترض به تغيير نمط قراراته، التي غلب عليها سابقا شراء أراض ومن ثم بيعها بعد فترة من الزمن كسبا لهامشها الربحي بين سعر الشراء والبيع، فهذا زمن ولى وقد لا يعود قريبا، ومن ثم قد يكون واجبا عليه أن يكون أكثر تحفظا الفترة القادمة، وأن يتحول من مجرد مضارب في الأراضي إلى مستثمر في سوق أخرى، أو في السوق العقارية نفسها ، ولكن بالتوجه نحو شركات التطوير العقاري، التي يتوقع أن تكتسب حظوة وجاذبية أكبر بعد تراجع أسعار الأراضي، وهي الشركات التي ينتظر أن تسهم بتنويع منتجاتها، وتستفيد من قنوات التمويل العقاري المعمول بها في الوقت الراهن.
بالنسبة للمخطط الاقتصادي؛ قد تكون هذه الفرصة الأخيرة بالنسبة له، ليبدأ بإعادة رسم السياسات والبرامج التي أكل الدهر عليها وشرب كثيرا طوال 45 عاما مضت، ليقوم بتوظيف القوى المالية الهائلة المتوافرة الآن في تعزيز تنويع القاعدة الإنتاجية المحلية، واستبدال سياسة تخزين الأموال في الخارج وتكديسها دون جدوى حقيقية على النمو الاقتصادي وتعزيز الدخل وتوفير الوظائف اللازمة أمام الباحثين عنها، إلى ما يحقق تلك الأهداف التنموية التي غاب تحقيقها طوال العقد الماضي تحديدا، وطوال عمر خطط التنمية التي تدخل عهدها العاشر. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي