أين الخلل فيما نواجه من تحديات تنموية؟

يقف كل من الاقتصاد الوطني والمجتمع في المرحلة الراهنة على العديد من التحديات التنموية، في مقدمتها أزمة الإسكان، والغلاء الفاحش الذي وصلت إليه أسعار الأراضي، أوصلها إلى أن أصبحت تشكل أكثر من 70 في المائة من التكلفة الإجمالية للمسكن، وهو ما يفوق بتكلفته الباهظة الثمن بدرجات كبيرة مستوى الدخل الثابت للمواطن، ويفوق حتى قدرته على الشراء بعد إضافة خياراته المتاحة ائتمانيا! إضافة إلى بقية التحديات التي يواجهها الأفراد في مجالات صعوبة الحصول على فرص العمل الملائمة، وتدني المعروض منها لدى منشآت القطاع الخاص، وانحساره فيما يقل كثيرا عن المأمول من قبل طالبي العمل، سواء على مستوى التأهيل العلمي للوظيفة، أو الأجر الشهري المناسب والعادل، أو من حيث التعاقد بين رب العمل والعامل. يلي تلك التحديات سلسلة طويلة من أنماط المعيشة المكتظة بالعديد من المطبّات إن صحّت الكلمة؛ كغلاء أسعار السلع والخدمات، إضافة إلى غلاء إيجارات المساكن، وكلا المطبين يرتبطان بغلاء الأراضي والعقارات، انعكس تأثيرهما المباشر على زيادة تكلفة مكونات سلة كل من السلع والخدمات والإيجارات، التي تستحوذ على أغلب فواتير الإنفاق الاستهلاكي للفرد.
أدت كل المتغيرات أعلاه بدورها إلى اضطرار الفرد لتعويض غلاء الأسعار، وعدم كفاية دخله الشهري الثابت، إلى الاقتراض من المصارف التجارية عبر مختلف قنوات التمويل المتاحة، سواءً عبر الاقتراض الاستهلاكي المباشر، أو الاعتماد على البطاقات الائتمانية، وصل رصيدها النهائي حتى منتصف العام الجاري إلى نحو 343 مليار ريال، وبإضافة ما يسمى قروض الظل المصرفي، التي يضخ أغلب تمويلها من شركات ومؤسسات التقسيط، قدر صندوق النقد الدولي نسبتها من إجمالي الائتمان البنكي بنحو 25 في المائة، ليرتفع تقديريا مجموع القروض الاستهلاكية وبطاقات الائتمان وقروض الظل المصرفي على الأفراد إلى ما يقارب 672 مليار ريال في منتصف العام الجاري.
يمثل كل ما تقدم أعباء مالية ومعيشية بالغة التعقيد على كاهل أغلب الأفراد، سبق أن تم الحديث والكتابة عن الأسباب التي وقفت وراءها في أكثر من مقام ومناسبة، ولم يقف تناولها عند ذلك الحد؛ بل امتد إلى الحلول المقترحة المتوقع أن تؤدي إلى تخفيف حدّة ضغوطها المعيشية في الأجل القصير، ومن ثم إلى زوالها - بمشيئة الله - في الأجل الطويل، يجدها القارئ الكريم في العديد من المقالات الموثقة هنا على موقع صحيفة "الاقتصادية"، مفندةً حسب عنوان كل تحد من التحديات المذكورة أعلاه.
أهم ما يجب ذكره هنا في خصوص تلك التحديات، أن الرابط المشترك بينها، سواء على مستوى تحديد الأسباب التي أدت إلى تفاقمها، أو على مستوى اقتراح حلولها المناسبة، أؤكد أن ذلك الرابط المشترك يتمثل في السياسات الاقتصادية المتحكمة في سلوك وإدارة أغلب القضايا أعلاه، وفيما ينتج عنها من إجراءات وقرارات يتم اتخاذها من قبل الأجهزة التنفيذية، التي لا مجال لديها للخروج عن سياقها المدون في خطط التنمية المتعاقبة، زاد من إلزاميتها ارتباطها الوثيق بالميزانية العامة. كما يؤخذ في الاعتبار؛ أوجه القصور التي قد تطرأ على تنفيذ تلك السياسات أو القرارات والإجراءات من قبل الأجهزة التنفيذية، الذي يؤدي إلى مزيد من تشوهات النتائج على أرض الواقع.
والحال تلك؛ ستجد أنك في مواجهة تحديات تنموية جسيمة الحجم، يزيد من تعقيدها أن مكوناتها ناتجة عن عوامل مركبة من الأسباب التي سبق ذكرها أعلاه، ما يتطلب لأجل معالجتها بدقة وفاعلية، أن يتم تفكيك تلك الأسباب، ومن ثم اتخاذ ما يلزم حيالها. على الرغم من الجهد الكبير الذي يتطلبه القيام بما تقدم على طريق الإصلاح والمعالجة، إلا أن استكمال ما يلي من خطوات الإصلاح، لا يقل جهده وعنايته اللازمان عما تم بذله؛ فإذا كان الخلل مغمورا في صلب السياسات، أو فيما نتج عنها من برامج وقرارات وأنظمة ولوائح تنفيذية، وهو ما ثبت وجوده قياسا على الكثير من نتائج الدراسات ومؤشرات الأداء القائمة على أرض الواقع، لمسه الفرد والمجتمع بصورة ظلت تتزايد وتيرته الضاغطة على مختلف معطيات حياته اليومية، زاد من وطأتها؛ أن الحلول الجزئية والمؤقتة بهدف تخفيف حدة تلك الضغوط، التي تم اتخاذها طوال مراحل زمنية مضت، كزيادة الرواتب، أو زيادة الدعم على العديد من السلع والخدمات، وغيرها من الإجراءات الوقتية، سرعان ما تحولت من كونها "عونا" للفرد والمجتمع إلى عامل زاد من تلك الضغوط، نتيجة سوء الاستغلال من قبل الأطراف في جانب العرض، سواء من قبل تجار التراب والعقارات، أو من تجار السلع والخدمات وغيرهم من المقتنصين لتلك الزيادات في الأجور، حتى وصلنا لمرحلة أصبح الفرد يخشى معها مجرّد الحديث عن زيادة دخله الشهري!
لهذا يتطلب الأمر في حال تم اكتشاف تلك التشوهات أو الاختلالات في السياسات والبرامج التنموية وما قد ينتج عنها، أن تتم مواجهته بيدٍ جادة للإصلاح وإعادة تصميمه وفق مقتضيات المرحلة الزمنية الراهنة، وكم هو لافت جدا في هذا السياق؟ أن تكتشف أن أغلب السياسات الراهنة تم تصميمها قبل نحو نصف قرنٍ من تاريخ اليوم! ومن عجب أن أغلب من وضعها وكتبها وفق المعطيات التي عاصروها آنذاك قد قضوا نحبهم، فإن كانت قد نجحت بامتياز في تلك الحقبة من الزمن (وهو ما حدث فعلا)، فلا يعني أنها ستبقى صالحة لكل زمان ومكانٍ ومجتمع!
أؤكد أن هذه المعضلة الكبرى، هي ما يقف خلف أغلب - إن لم يكن كل - ما نواجهه اليوم من تحدياتٍ تنموية جسيمة، ليس ما ذكرته في مقدمة المقال سوى مثال عليها، لا على سبيل حصرها! وأننا حال تجاوز تلك المهمة الإصلاحية العظيمة، سنجد أنّ ما يليها من فصول التحديات أو الصعوبات ستذوب تماما، لانتفاء وجود الأسباب الحقيقية التي أدت إلى نشوئها وتجذرها في حياتنا. كل عام ووطننا الحبيب بتاريخه وحاضره ومستقبله وقادته وأهله في خير وسلام وتقدم لا يتوقف مسعاه الخير والأصيل المعدن، والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي