إجراءات لإصلاح الدعم الحكومي للطاقة .. تمهيد

المقال السابق أشار إلى أن طبيعة الدعم الحكومي لقطاع الكهرباء تعد أساس التحديات المتصاعدة التي يواجهها القطاع اليوم والعامل الأهم الذي أسهم في تدهور أدائه. وأن العلاج يجب أن يكون من المشكلة ذاتها وليس من خلال علاج مخرجات تشوهات اقتصادية وثقافية قائمة. لذا وجب الالتفات إلى إصلاح الدعم الحكومي الذي سيعالج بدوره التحديات الأخرى. وتمهيدا لاقتراح بعض الآليات والإجراءات التي تهدف لإصلاح حال قطاع الكهرباء وتحويله إلى صناعة متكاملة تعتمد على مواردها الذاتية لتغطية مصاريفها كافة، لا بد من فهم علاقة دعم الدولة بأداء القطاع وأثر ذلك في اقتصاد البلاد. ولترسيخ هذا الفهم عند القارئ، لا بد بداية من مراجعة تاريخ سياسة الدولة للطاقة من جهة، وتاريخ تطور قطاع الكهرباء منذ إنشائه من جهة أخرى. فهم الأحداث التاريخية لسياسة الدولة للطاقة وتطور قطاع الكهرباء في أنحاء المملكة ستمكننا من بناء أرضية لاستنتاج اقتراحات وإجراءات نرجو أن تكون عملية وقابلة للتطبيق والمهم أن تسهم في تخفيف آثار الدعم السلبية في أداء القطاع.

سياسة الطاقة في المملكة – نظرة تاريخية
إن من أهم أبعاد أزمة الطاقة المعروفة بالصدمة البترولية تلك الناتجة عن حظر النفط العربي في عام 1973م، هو تشكيل تحالف غربي للدول المستوردة للنفط يهدف لرسم سياسات جادة تزيد من مستويات أمن الطاقة لديها؛ وذلك من خلال الاستغناء عن نفط الشرق الأوسط. فزاد الاهتمام بمجال الطاقة البديلة والمتجددة كما زاد الاعتماد على الفحم والطاقة النووية لإنتاج الكهرباء على حساب النفط بشكل ملحوظ إلى جانب نشوء مفهوم تحسين "كفاءة الطاقة". أما من جانب الدول المصدرة للنفط وعلى رأسها المملكة، فقد استفادت من تضاعف أسعار النفط أربع مرات مباشرة خاصة بعد تأميم شركات البترول التي أصبحت وطنية وكونت ثروات بمعدلات لم تتعود عليها؛ وهذا ما يفسر توجه الدولة آنذاك لزيادة دعم قطاع الكهرباء الذي سندخل في تفاصيله لاحقا - إلى جانب دعم القطاعات الأخرى -؛ وذلك من خلال فرض تخفيضات متتالية للتعرفة على شركات الكهرباء. وفي الوقت نفسه نشأت لدى الدولة ثقافة قاومت من خلالها كل التوجهات التي تبنتها الدول المستوردة للاستغناء عن نفطها وهذه ردة فعل طبيعية لدولة أصبحت تعتمد في اقتصادها إلى حد كبير على تصدير النفط. فالحديث عن بدائل الطاقة وتحسين كفاءة الطاقة لم تكن من المواضيع المحببة حتى وقت قريب (إلى عام 2010 تحديدا كما سنرى في المقالات القادمة). وهذه الثقافة أسهمت إلى حد كبير في أن يشكل النفط في الوقت الحاضر نسبة 60 في المائة من الوقود المستخدم لإنتاج الكهرباء في المملكة. فاليوم تعد المملكة أكثر الدول اعتمادا على النفط لإنتاج الكهرباء على الإطلاق، وتصدرت حديثا قائمة أكثر الدول دعما للطاقة على مستوى العالم متخطية بذلك إيران وفنزويلا. فلو علمنا أن فرق سعر برميل النفط المبيع على شركة الكهرباء من الدولة يقارب المائة دولار إذا ما قورن بأسعار الأسواق العالمية، ندرك أن تكلفة الفرصة البديلة "الضائعة" تتجاوز مئات المليارات من الدولارات. ومع ذلك تعجز شركة الكهرباء حتى عن تسديد قيمة الوقود المتفق عليها لأسباب خارجة عن إرادتها وأصبحت تسجل عليها كديون آجلة ما زالت تتراكم بمعدلات كبيرة. ولا بد أن نشير أيضا إلى أن بعض الخبراء والمؤثرين يميلون لطرح أن النفط في باطن الأرض ليس له قيمة وبالتالي يدحضون مبدأ حساب تكلفة الفرصة البديلة للنفط.

تطور قطاع الكهرباء – نظرة تاريخية
بدأ قطاع الكهرباء متواضعا ومتناثرا في أنحاء المملكة وبمبادرات خاصة من أهل المناطق الذين أنشأوا شركات أهلية. ولم يكن دور الدولة وقتها يتجاوز توفير بعض الموارد الأساسية كالأراضي والوقود لتأسيس وتشغيل محطات الإنتاج دون أي تدخل مباشر في إدارة التشغيل أو تعرفة الاستهلاك. ففي عام 1959م، على سبيل المثال، كان سعر وحدة الكيلوواط ساعة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والخبر والدمام 30 هللة للمائة وحدة الأولى ثم 25 هللة لما زاد على المائة وحدة لجميع مستهلكي الكهرباء بينما أعلى قيمة يمكن أن يدفعها أكبر مستهلك اليوم لا تتعدى 26 هللة للكيلوواط ساعة. ومع توسع استخدام الكهرباء وانفتاح السكان على أجهزة جديدة الذي تزامن مع تحسن الوضع الاقتصادي للمملكة، تزايد النمط الاستهلاكي بشكل متسارع فرأت الدولة تخفيض تعرفة استهلاك الكهرباء لتشجيع الصناعة والزراعة الوطنية وتخفيف العبء في السكان كافة. ومع استمرار تحسن دخل الدولة الذي انعكس على مداخيل الأفراد والصناعات قامت الدولة بتقديم تخفيضات إضافية للتعرفة حتى أصبح دخل أغلب شركات الكهرباء أقل من مصاريف تشغيلها. وعلى أثر ذلك قدمت الدولة وعودا بتعويض خسائر تلك الشركات وقامت بتثبيت أرباحها في البداية بنسبة 15 في المائة. إلا أن تخفيض التعرفة المتزامن مع تحسن دخول المستهلكين أسهم في زيادة ارتفاع الطلب على الكهرباء الأمر الذي تطلب زيادة الاستثمار في توسعة البنية التحتية تحت مظلة المؤسسة العامة للكهرباء المملوكة بالكامل للدولة. واستمرت شركات الكهرباء في تسجيل خسائر بنسب متزايدة لاستمرار ارتفاع الطلب على الخدمة فقلصت الدولة نسبة التعويضات لتلك الشركات من خلال تخفيض نسبة الأرباح التي أعيد تثبيتها إلى 10 في المائة ثم إلى 7 في المائة. إلا أن الشركات إجمالا زادت نسب خسائرها بمعدلات لا يمكن السكوت عنها فقامت الدولة بإجراءات أدت إلى زيادة حصتها في تلك الشركات الأمر الذي أدى إلى تقليص نسب المساهمين الأفراد ومستثمري القطاع الخاص فيها. كما قامت بدمج أكثر من 100 شركة (الخاسرة منها والرابحة) في عشر شركات؛ وذلك في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، ثم في أربع شركات إقليمية إلى جانب مشاريع المؤسسة العامة للكهرباء. الجدير بالذكر أن قرارات الدولة لتخفيض التعرفة، وبالتالي دعمها النفطي والمالي لقطاع الكهرباء، كانت - تلك القرارات - مرتبطة بالدرجة الأولى بتحسن دخل الدولة الذي كان وما زال مرتبطا إلى حد كبير بأسعار صادرات البترول. إلا أن تأرجح أسعار البترول وانخفاضها خاصة في الثمانينيات والتسعينيات أسهما في ارتباك وتقنين الدعم للقطاع. وهناك أيضا ظروف خارجية أسهمت في تقنين وفي أحيان كثيرة "تأخر" الدعم كأحداث حربي الخليج الأولى والثانية.

المزيد من مقالات الرأي