رؤية بنكهة محلية

تلعب الجهات التشريعية دورا محوريا في تحديد توجهات وأطر المسؤولية الاجتماعية للشركات. وتضطلع بهذا الدور المؤسسات التشريعية حول العالم على اختلافها. وعادة ما تلعب الجهات التشريعية هذا الدور على مستوى استشاري، وأحيانا على مستوى أعلى لضمان تحقيق أهداف تنموية وطنية شديدة الإلحاح. فعلى سبيل المثال، قامت الهند بفرض إصدار تقارير الاستدامة بعد أن قاومت الشركات ضريبة المسؤولية الاجتماعية، ما حدا بالحكومة إلى تشكيل لجنة من القطاعين لإيجاد الصيغة الأفضل التي تكون مقبولة من القطاع الخاص.
أما في ماليزيا، وهو المثال الذي نركز عليه في مقالنا اليوم، فقامت هيئة السوق بدورها الاستشاري ومسؤوليتها التاريخية. ولنتأمل كلمات الرئيس التنفيذي للبورصة عام 2006، التي صرح فيها "إن أصحاب المصالح المختلفة أصبحوا يتطلعون إلى دور أكبر من الشركات يتخطى خدمة المجتمع إلى استدامة الأعمال". أي دور أكثر استراتيجية الذي يعني دمج الاستدامة في استراتيجية الشركة.
واستطرد الرئيس التنفيذي قائلا "إن تطبيق المسؤولية الاجتماعية أصبح أحد أهم المعايير التي يتطلع إليها المستثمرون حول العالم في توجههم الاستثماري، لما لها من فوائد جمة. مثل: زيادة قيمة الشركات التجارية، تحسين سمعة الشركات، ودفع الابتكار داخل الشركة. كما أنها من مفاتيح وصول الشركات إلى رأس المال، وكذلك زيادة قيمة السهم". حمل هذا التصريح العديد من المعاني العميقة وقبل ذلك توجه المشرع. فبداية حدد التوجه للاستدامة عوضا عن خدمة المجتمع وفي هذا تصريح واضح من الرئيس التنفيذي للبورصة بأن القيمة العائدة على أصحاب المصالح وعلى رأسهم المجتمع بمعناه الأشمل تتعزز بتطبيق الاستدامة عوضا عن خدمة المجتمع التي أثبتت على مر السنين محدودية أثرها في أصحاب المصالح على اختلافهم وقصورها في معالجة العديد من القضايا المحلية. كما أنه صرح بأن التوجه الجديد حول العالم اليوم نحو التطبيق الأمثل للمسؤولية الاجتماعية من أهم عوامل جذب الاستثمارات.
كان هذا التصريح بمثابة حجر الأساس لمسيرة الاستدامة في ماليزيا، ولكن بعد وضع التوجه الاستراتيجي ما الخطوات التي قامت بها إدارة البورصة من أجل تدعيم هذا التوجه وتأكيد انطلاقتها نحو تحقيق الاستدامة بلا رجعة؟ يجدر بنا هنا التحدث عن التسلسل الزمني للتشريعات. أولا، قامت إدارة البورصة بإلزام جميع الشركات للامتثال لقواعد الحوكمة الداخلية وفق ضوابط محددة موضوعة من قبل الهيئة. وقد وضعت هذه الضوابط بشكل يضمن تطبيقها من قبل جميع الشركات المساهمة، آخذة بعين الاعتبار حجم الشركة من حيث رأس المال، عدد الموظفين، الربحية، وكذلك القطاع الذي تعمل به الشركة. ثانيا، قامت إدارة البورصة بفرض الإفصاح على الشركات بما فيها أداء الشركة على المستوى البيئي، الاقتصادي، الاجتماعي، وأفضل الممارسات العمالية.
وبما أن جودة التعليم تعتبر أهم التحديات التي تواجه ماليزيا، فقد حددت البورصة العديد من جوانب الإسهام أبرزها: إيجاد الفرص الاستثمارية لرواد الأعمال، استحداث ودعم برامج الموردين المحليين، ودعم التعليم في المناطق الريفية خاصة مواد اللغة الإنجليزية والرياضيات والعلوم.
وأخيرا قامت إدارة البورصة بزيادة الإعفاءات الضريبية لمساهمات الشركات في مجال المسؤولية الاجتماعية من 5 إلى 7 في المائة. ما نلاحظه من خلال حزمة التشريعات الأخيرة أنه تم تفصيلها لتناسب الواقع الماليزي، وكذلك لخدمة أصحاب المصالح على اختلافهم دون التأثير في مستوى الأداء التشغيلي بالشركات. فالالتزام بقواعد الحوكمة لا يمكن إلا أن يعود بالأثر الإيجابي الكبير على الشركة ويدعم استمراريتها وتنافسيتها على المدى الطويل، وكذلك الإفصاح عن النشاطات أتى كمرحلة أولية لتطبيق أفضل للمسؤولية الاجتماعية، وأخيرا الإعفاءات الضريبية الكبيرة.
يذكر أن صندوق ادخار الموظفين وصندوق التقاعد الماليزي قد أعلنا في وقت لاحق اعتبار معايير الاستدامة أحد أهم المعايير المأخوذ بها عند تقييم الاستثمارات. هذا عن تجربة ماليزية تتسم بالمرونة والتدرج التشريعي. محليا نريد تفعيل هذا الدور، فلابد أن توضع لبنة الأساس من قبل جهة تشريعية لها صلاحيات أصلية، وأما على سبيل التشريعات فكما شاهدنا أن المرونة والتدرج واستشارة أصحاب المصالح هي أهم الخطوات نحو اتخاذ القرارات التشريعية الصائبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي