الجودة الشاملة ودورها في الاستدامة المؤسسية للعمل الخيري

يعتبر العمل الخيري أحد أهم روافد التنمية والدعم الاجتماعي، وقد تطور عبر الأيام ليصبح صناعة عالمية لها دور مؤثر في مواجهة الأزمات والكوارث الإنسانية، وكذلك محاربة الفقر والجهل، وحماية حقوق الإنسان التي كفلتها شريعتنا السمحة، التي حثت على العمل الخيري وشجعت المساهمة فيه وشجعت الاحتساب والتطوع والبذل والتبرع من أجل تحقيق هذه الغايات النبيلة، ويكفي أن الله تعالى ربط ذلك بالفلاح كما في قوله جل وعلا في آخر سورة الحج (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون).
ومن أشمل وأوسع التعاريف للعمل الخيري تعريف الأستاذة عفاف الدباغ في كتابها المنظور الإسلامي للرعاية الاجتماعية .. وفيه أن العمل الخيري كل عمل يسعى إلى تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية في الحفاظ على الضروريات الخمس كما هو مقرر عند علماء الأصول وفق ما يلي:
أولا: برامج للإسهام في حفظ الدين مثل: برامج إرشادية دينية تعليمية وتعليم القرآن الكريم..إلخ.
ثانياً: برامج للإسهام في حفظ النفس مثل: برامج رعاية الأسر، وبرامج التوعية الصحية، وبرامج لرعاية المسنين، وبرامج رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة..إلخ.
ثالثاً: برامج للإسهام في حفظ العقل مثل برامج التوعية بأضرار المخدرات، وبرامج التوعية بأضرار التدخين..إلخ.
رابعاً: برامج للمساهمة في حفظ النسل مثل: برامج توعية المقبلين على الزواج، البرامج الصحية لتقوية النسل..إلخ.
خامساً: برامج المساهمة في حفظ المال مثل: برامج التدريب على المهن المطلوبة في سوق العمل، برامج التدريب على إقامة المشروعات الصغرى ومشروعات زيادة الدخل..إلخ.
والعمل الخيري في مملكتنا الغالية ينضوي تحت راية وزارتي الشؤون الاجتماعية ووزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والأوقاف المخولتين بالإشراف على العمل الخيري بتخصصيه وفرعيه الأول: الإغاثي والاجتماعي والجانب الآخر: الدعوي والتعليمي. وفي بعض الإحصائيات غير الدقيقة - للأسف - أن عدد الجمعيات التابعة للوزارتين أكثر من 1300 جمعية ومؤسسة خيرية.
والملاحظ أن أغلب المنظمات في العالم الإسلامي في القطاع الخيري تفتقر إلى العمل المؤسسي المتميز وتفتقر إلى تطبيق معايير الجودة بمختلف مفاهيمها وتطبيقاتها المعروفة على الرغم من أن الجودة تمثل معلما رئيسا في ديننا الإسلامي العظيم وفي تراثنا الإسلامي المجيد، وكثيراً ما تذكر الجودة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة تحت أعظم مصطلحين للجودة، بل وأدق منها ألا وهما الإتقان والإحسان. ويكفي بها سؤدداً أن ربنا عز وجل في أعظم كتاب وأجل كلام وأتقن أسلوب وصف خلقه سبحانه وتعالى بهما فقال جل من قائل: (الذي أتقن كل شيء) وقال: (الذي أحسن كل شيء خلقه)، وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته وحفزها لإتقان أعمالها فجعلها طريقاً لمحبة الله - عز وجل - فقال: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" ومع ذلك كله تتعجب من تأخر الأمة في إبراز مفاهيم الجودة وتطبيقاتها.
وللحقيقة فإن العمل الخيري في مملكتنا الغالية قد قطع شوطا لا بأس به في مجال الجودة من خلال المبادرات الجيدة من بعض الجمعيات الخيرية والتطبيقات الاحترافية في مجال إدارة الجودة الشاملة ومنها تحقيق متطلبات المواصفات القياسية العالمية لنظم الإدارة آيزو 9001 والحصول على شهادتها وتطبيق معاييرها بشكل مستدام.
كما أن تدشين جائزة السبيعي للتميُّز في العمل الخيري والتنافس الشريف من قبل بعض مؤسسات العمل الخيري في المملكة للفوز بها وتطبيق معاييرها باحترافية - كما اطلعنا عليه خلال عملية التقييم في الدورة الأولى للجائزة - ما يدعو إلى الثقة بأن العمل الخيري مقبل - بإذن الله - على مرحلة متميزة ونقلة نوعية مشجعة.
وبلا شك فإن تطبيق متطلبات إدارة الجودة الشاملة في العمل الخيري له ثمار عملية وحقيقية تتمثل فيما يلي:
- الارتقاء بفاعلية وكفاءة العمل المؤسسي الخيري.
- غرس روح الإبداع والتعلم المستمر في العمل الخيري.
- تعزيز ثقة المجتمع بمنشآت العمل الخيري.
- توفير مرجعية وأسس معيارية لقياس أداء المنشآت الخيرية.
- نشر أفضل الممارسات والتجارب في العمل الخيري.
- تطوير وتحفيز وتكريم العاملين في القطاع الخيري.
ويمكنني أن أعرف الجودة بصورة شمولية بأنها اسم جامع لكل الإجراءات والأنظمة الإدارية والفنية المتبعة لإنتاج منتج أو تقديم خدمة وفق معايير ومواصفات متبعة تكون قادرة من خلالها على الوفاء باحتياجات ورغبات عملائها، بالشكل الذي يتفق مع توقعاتهم، ويحقق الرضا والسعادة لهم، مع التطوير والتحسين المستمر لكامل المنظومة للوصول لأفضل الممارسات المؤسسية المماثلة.
وإن تطبيق الجودة بشكل مناسب في المنظمات أياً كانت سواءً في القطاع الحكومي أو الخاص أو القطاع الخيري سيكون مدعاةً وسبباً مؤكداً لاستدامتها واستمراريتها لتحقيق أهدافها السامية. وباختصار فإن الاستدامة المؤسسية تتحقق بتحقق معايير التميُّز المؤسسي المتعارف عليها من قيادة إدارية واستراتيجية متميزة وموارد بشرية رائدة وموارد مالية مستدامة وشراكات ناجحة وتحديد للمهام والعمليات المناطة بها وفق أنظمة متكاملة لتحقق من خلال ذلك نتائج أداء مستدامة ومتميزة لسائر المعنيين بها.
ومن المواصفات المهمة التي تحدثت أيضاً وركزت على الاستدامة المؤسسية المواصفة القياسية ISO 9004:2009 التي يطلق عليها الإدارة نحو النجاح المستدام للمنظمة. وهي مواصفة قياسية تهدف إلى دعم تحقيق النجاح المستدام من قبل أي منظمة بغض النظر عن النوع أو الحجم أو النشاط عن طريق تطبيق منهجية إدارة الجودة الشاملة، وذلك من أجل التحسين المستمر للمنظمة لكفاءتها وأدائها وفعاليتها وبصورة شاملة، والتركيز على تلبية احتياجات وتوقعات العملاء والأطراف الأخرى ذات الصلة على المدى الطويل وبطريقة متوازنة وتوفر للمستفيدين منها النظرة الشمولية لنظام إدارة الجودة من أجل توجيههم نحو المدى الطويل "المستدام" للنجاح. وإن من أهم ميزاتها الرئيسة أنها أداة للتقييم الذاتي في ضوء بنودها الرئيسة بناءً على مستويات النضوج الخمسة التي بينتها المواصفة، التي يمكن استخدامها من قبل المنظمات لتحديد وتقييم مستوى النضج تجاه نظامها لإدارة الجودة، وهذا بدوره يسمح للمنظمة بتحديد نقاط القوة والضعف الخاصة بها، وتحديد الإجراءات اللازمة لضمان نجاحها المستدام على المدى الطويل، وفي الوقت نفسه تعتبر نتائج التقييم الذاتي مصدراً قيّما للتعلم من قبل المنظمة لاتخاذ قرارات بشأن كيفية دعم جهوده وتحسينها.
وأخيراً.. أدعو من هذا المنبر وزير الشؤون الاجتماعية ووزير الشؤون الإسلامية وهما الحريصان على إجادة وتحقيق الأدوار والمهام المناطة بوزارتيهما بفاعلية وكفاءة العمل على تعزيز مفاهيم الجودة والتميُّز المؤسسي رسمياً؛ وذلك بإنشاء أقسام أو إدارات أو أي مظلة رسمية لتطوير وتطبيق أنظمة ومعايير الجودة في الجمعيات الخيرية في المملكة العربية السعودية تحقيقاً للأهداف المرجوة من ذلك وتحقيقاً لتوجيه خادم الحرمين الشريفين بقوله: "ليس من سبيلٍ للمملكة للمنافسة والمشاركة الفاعلة عالمياً، إلا عندما تكون الجودة معيارها الأساسي في كل ما تقدمه للعالم، مستمدة هذا الإتقان من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف".
والله من وراء القصد،،

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي