المزيد عن رفع سن التقاعد الإلزامي

احتج بعض القراء - حفظهم الله - على المقالة السابقة التي حاولت توضيح ضرورة النظر في رفع سن التقاعد، والمقصود هنا هو سن التقاعد الإلزامي، أي السن التي يُجبر فيها الإنسان على ترك العمل بسبب عمره، أما التقاعد الاختياري فهو أمر متروك للمشتغل، ويستطيع أي إنسان التقاعد من أي عمل عند أي عمر شاء، ولكن عليه تحمل تبعات هذا القرار. ويعتقد معظم المختصين أن من حق المشتغل - أياً كان - الاستمرار في العمل ما دامت لديه القدرة والرغبة على أداء واجباته. ومن المستغرب حقاً أن يرى بعض الناس ضرورة إجبار جميع المشتغلين على ترك العمل لأنهم وصلوا إلى عمر معين، فإذا كان من حق أي إنسان أن يتقاعد متى شاء، فإن من الأولى السماح للمشتغل بالاستمرار في العمل مهما كان عمره، ما دام قادراً على العطاء.
ويحاول البعض تبرير إحالة المشتغلين إلى التقاعد بدوافع محاربة البطالة، ويعتقدون أن إحالة العاملين في سن مبكرة إلى التقاعد تساعد على خفض معدلات البطالة. وعلى كل من يعتقد ذلك أن يتذكر أن إحالة المشتغلين القادرين على العمل إلى التقاعد هو إنهاء لعقود العمل، وصنف من صنوف البطالة. حيث يُعرف العاطل عن العمل بأنه من يبحث عن عمل ولا يجد عملا، وإحالة المشتغلين إلى التقاعد إذا كانت لديهم قدرة ورغبة في العمل تضيفهم إلى صفوف البطالة. ولهذا فإن اعتبار مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات العاطلين عن العمل فوق عمر 60 هجري (58 بالسنوات الميلادية) خارج عدد العاطلين عن العمل ليس بالضرورة أمراً صحيحاً، بل إنه يخفض بصورة فعلية معدلات البطالة الحقيقية بين السكان. وأعتقد أن من الواجب ضم كل شخص يرغب في العمل وينشط في طلبه ولا يجد عملا إلى صفوف البطالة، مهما بلغ من العمر. وهنا ينبغي التذكير بأن التقاعد ليس عملاً، وأن منافعه هي تحويلات وليست أجوراً، كما أنها لا تعتبر جزءًا من الناتج المحلي الإجمالي، ومهما بلغت قيمة هذه التعويضات فهي لا تضيف شيئاً إلى الناتج المحلي الإجمالي. وتنص الأنظمة الوظيفية في المملكة على أن سن التقاعد هو 60 عاماً هجرياً أو ما يترجم إلى 58 سنة ميلادية، حيث يحال منسوبو الدولة من مدنيين وعسكريين وموظفي القطاع الخاص عند هذه السن أو قبلها. ويحال الكثير من العسكريين - وهم أغلبية المتقاعدين - للتقاعد عند عمر أقل من ذلك بكثير. ويختار الكثير من المشتغلين في الدولة الإحالة إلى التقاعد عند مستويات أعمار تقل عن سن التقاعد. ويبلغ متوسط عمر العاملين في الدولة عند الإحالة إلى التقاعد حوالي 52 عاماً (وهو منخفض جداً). وعند مقارنة هذا مع متوسط العمر المتوقع عند الولادة في المملكة، الذي يصل - حسب بيانات مصلحة الإحصاءات العامة - إلى نحو 74 عاماً، فهذا معناه تلقي المحالين للتقاعد تحويلات التقاعد لمدة تصل في المتوسط إلى نحو 22 عاماً، كما سيستفيد بعض أفراد عائلاتهم في حالة الوفاة، مما يعني استمرار المنافع لفترة أكثر. وإذا قورن عدد المتقاعدين من منسوبي الدولة مع عدد العاملين فيها فإن نسبتهم قد تصل إلى 30 في المائة. وسترتفع هذه النسبة مع مرور الوقت بسبب تزايد عدد المتقاعدين بمعدلات أكبر من تزايد عدد الموظفين. وسيتعرض صندوقا التقاعد في المملكة إلى ضغوط كبيرة خلال عدة سنوات، بسبب انخفاض عمر المحالين للتقاعد. وهذا سيحد من قدرة الصندوقين على تحسين مستوى التحويلات مستقبلاً، مما سينعكس بالسلب على منافع التقاعد مع مرور السنين.
وتشير بيانات المؤسسة العامة للتقاعد إلى أن إجمالي عدد الحالات المستفيدة من التقاعد في عام 2012م وصل إلى نحو 559 ألف متقاعد، وبلغ عدد الأحياء منهم 429 ألفاً، والباقي متوفون. ووصل ما تم صرفه من قبل المؤسسة في عام 2012 إلى نحو 44.588 مليون ريال، ذهب جزء طفيف منها لأصحاب الدفعة الواحدة. وتدل هذه البيانات على أن متوسط المبالغ المصروفة للحالة التقاعدية الواحدة بلغ نحو 79 ألف ريال في عام 2012 أو بمعدل شهري مقداره نحو 6600 ريال، وهو ما يعني بصورة فعلية حتمية سعي معظم المتقاعدين للحصول على موارد أخرى للدخل، وإلا وقعوا في دوائر العوز. من جهةٍ أخرى بلغ إجمالي معاشات التأمينات التقاعدية لعام 1433هـ نحو 12.1 مليار ريال، وبلغ عدد الحالات مستحقة الصرف 274 ألف حالة تقريباً لنفس العام، مما يعني أن متوسط معاشات متقاعدي القطاع الخاص بلغ نحو 44.2 ألف ريال في السنة أو نحو 3700 ريال في الشهر. وأعتقد أن هذا المبلغ لا يكفي لحاجات العائلات الأساسية، ولهذا لا بد من توافر دخول إضافية لمتلقي معاشات التأمينات لكي يحظوا بعيشة كريمة.
وتشير بيانات مؤسستي التقاعد في المملكة إلى وجود أكثر من 830 ألف أسرة تعتمد بصورة كلية أو جزئية على مخصصات التقاعد. وما لم يكن لأسر المتقاعدين موارد أخرى إضافية للعيش منها فإن هذا يدخل كثيرا من هذه الأسر في دوائر منخفضي الدخل. ويرغب المتقاعدون الذين لا تتوافر لديهم موارد أخرى للدخل في الاستمرار في العمل لفترات أطول، وذلك لمواجهة متطلباتهم الأسرية والمحافظة على مستويات دخل معينة.
وسيحسن السماح للمشتغلين بالاستمرار في العمل دخولهم ومستويات معيشة أسرهم، وسيكون أيضاً من إحدى الوسائل التي تساعد على التصدي للفقر، ويشير متوسط دخول المتقاعدين من القطاع الخاص والعام المنخفض إلى وجود عائلات كثيرة تنخفض دخولها إلى مستويات قريبة أو ضمن دائرة الفقر. إن رفع عمر التقاعد سيعمل على تحسين دخول الكثير من الأسر كما سيساعد صناديق التقاعد على مواجهة ارتفاع التكاليف المستقبلية، ويسمح لها على الأقل بالمحافظة على مستويات التحويلات الحقيقية، وقد يتيح تحسنها بعض الشيء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي