الشك !!

الشك صناعة إبليسيه محضة، والشيطان أول من زرع الشك والريبة في قلوب البشر، والمشهد الأول كان مع أبينا آدم وأمنا حواء لما دخلا الجنة ليأكلا من ثمارها حيث شاءا، إلا من شجرة واحدة أمرهما الله بالكفِّ عنها لحكمة يعلمها سبحانه، فأبى إبليس اللعين، الذي أخذ الوعد بالخلود إلى يوم الدين، أن يتركهما في هذا النعيم، بعدما كان عصيانه بالسجود لآدم - تنفيذاً لأمر الله - سبباً في طرده من رحمة الله، فوسوس لهما كي يشككهما في أمر الله ويلقى في نفسيهما أول بذرة للشك، كي يصل بهما إلى حالة من زلزلة الاستقرار النفسي، تحت وطأة الإغراء والتزيين والإيهام.

من هنا كان ميلاد أول نبتة للشك في نفس أبى البشر الذي هبط بها إلى الأرض، لتنتقل من جيل إلى جيل، متطورة بتطور حياة البشر وطرق عيشهم وأساليب تفكيرهم، حتى صارت الآن لازمة لا يكاد يخلو منها فكر أو فهم أو سلوك، بل صارت الآن صناعة يقوم بها أفراد وتقوم بها جهات ودول خدمة لأغراض تتباين في مدى خبثها ومكرها، لبناء هواجس وظنون حيال ثوابت ومعتقدات، لإحداث فتن وفوضى ، أو إحداث تمرد ضد شخص أو أشخاص لحجب الأضواء عنهم وتقليص دورهم في الحياة العامة.

وقد تقمص زارعو الشك أكثر من دور على مسرح الحياة العامة، فمنهم من أشهر قلماً وقال إنه كاتب ينقل للناس الحقائق المجردة، ويعلن عليهم كل الخفايا بكل شفافية، ويبرز أمامهم كل الخطايا بكل نزاهة، ويكشف لهم ستر المفسدين بلا تمييز، وهو في حقيقة الأمر لا يفعل شيئاً من ذلك، حيث نشر الأكاذيب بلا ضمير، ونثر الشائعات بلا مسئولية، وأساء بقلمه إلى من لا يستحقون الإساءة، وحَرَّف الكلام وشخص مراميه على نحو أعوج، وذلك كله لبلبلة الناس، أو الصيد في الماء العكر.

ومنهم من اعتلى منبر الوعظ، وارتدى ثوب الدين، ثم قفز إلى أفكار الناس من خلال جماعة أو صحيفة أو فضائية بحجة تطوير الخطاب الديني أو إيقاظ الوعي الديني، وما أكثر النماذج التي أفرزتها وسائل الإعلام خلال العقد الأخير، بعضها أفاد الناس بتبيان صحيح الدين، لكن شريحة ليست بالهينة من هؤلاء شككت الناس في مأكلهم و مشربهم و ملبسهم، بل وفى عبادتها وتقربها إلى الله، وراحت تعزف على التشدد في فروع الدين، وجرت إلى ذلك شباباً غضاً راح يحلل ويحرم بلا أدنى خجل أو خوف، ولا أبسط من أن يقول هذه بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، فمن الذي علم هذا الشبل أن يصدر أحكاماً بلا علم؟،إنها حالة اللاءات المنتشرة في شئون الدين، وهى حالة منشطرة عن قنبلة الشك والوسوسة في أمور الشريعة.

ثم نجد أنفسنا أمام فريق ثالث مارس زراعة الشك على نحو أكثر حرفية، وهو الفريق الذي «سيس» الدين، أو وظفه توظيفاً سياسياً بحثاً عن منصب، من أجل إشباع رغبة سلطوية تهفو إليها النفس، بيد أن المعضلة لا تكمن في طموح الوصول إلى منصب ما، خاصة في ظل إقرار التعددية واتساع رقعة الحرية، لكنها تكمن في الطريقة المريبة التي تتعامل بوجهين وتؤلف بينهما في مشهد يدعو للعجب، فهي تفكر بطريقة، وتتحدث فيما بينها بطريقة، وتتكلم مع الشارع بطريقة، وتتحدث مع الخاصة بطريقة، وكل طريقة تختلف عن الأخرى شكلاً ومضموناً، والشيء العجيب أنها تملك لكل طريقة من هذه الطرق أدوات ووسائل طيعة ومطيعة تنفذ بلا مناقشة، والأعجب أن تحاول أن تجرى تزاوجاً بين الأمر ونقيضه في محاولة غريبة لخلط الزيت بالماء، ولا أدرى ما هي النتيجة التي ترجوها من وراء ذلك..؟، لا أرى سوى اتباع طريقة التشكيك في النوايا والأفعال لخلق تمرد على الحياة؟

وهكذا تعددت صور مروجي الشك في المجتمع وما سبق ليس إلا نماذج، ورأيي أن ذلك أكبر خطر يهدد المجتمع، بل هو أخطر مما يتهدده من الخارج، لأن فقدان الثقة وانتشار آفة الشك أكبر مفسدة لعلاقة الناس بربهم، وعلاقة الناس بوطنهم، وعلاقة الناس ببعضهم، بل وظن الناس بأنفسهم، وهنا تتحول الحياة إلى ضنك وقلق مستمر، فكيف تتقدم عجلة التنمية في ظل رسم علامات الشك على كل كلمة وفعل وإنجاز؟، وكيف يحيا الناس في وئام وحب بينما دأب فريق على سوء تفسير النوايا هنا وهناك؟، وكيف يتوحد المجتمع صوب غاياته الكبرى وكل تيار يشكك في أهداف التيار الآخر؟.. إن الحياة عندئذ تتحول إلى كابوس مزعج للجميع.

إن الإنسان يجمع في كيانه صفات لخلق كثير من خلق الله، وهو في ذلك متنازع بينها، فهو متنازع بين متطلبات الروح ومتطلبات المادة، فإذا ما غلبه جانب حكم عليه به، فإن مال إلى جانب الروح سعى إلى غير موصول إليه وإن مال ناحية المادة انحط إلى ما دونه من خلق الله، وإن أجرى بينهما التوازن حقق إنسانيته وهو المطلوب، لكن المشاهد لواقعنا يرى تعدد منصات النقد وقواعد التشكيك بلا سقف أو حدود، وهو أمر تجاوز حدود الإنسانية إلى صفات شيطانية تصيب الحياة والأحياء بالعطب، من هنا أقول: إن من سعى لنثر بذور الشك بلا سبب وجيه فقد تقمص دور الشيطان الذي لا يريد للإنسان استقراراً ولا هناءً في مقاله أو حاله أو أي شأن من شئونه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي