Author

ما من أيادٍ خفيَّة يا معالي الوزير

|
في نظريته، يؤكد الاقتصادي جون مينارد كنز على دور كلا القطاعين العام والخاص في الاقتصاد، وهو في هذا يختلف مع نظرية اقتصاد السوق الحرة. فهو مع تدخل الدولة في بعض المجالات، ومع دورها في توجيه الاقتصاد، وتوزيع الثروات، وتوزيع الخدمات، والتحكم في البطالة ومراقبة الأسواق. ويعتقد أن اتجاهات الاقتصاد الكلي تحدد إلى حد بعيد سلوك الأفراد على مستوى الاقتصاد الجزئي، خصوصا في فترات الركود الاقتصادي، فمن خلال الطلب الكلي تستطيع الحكومة محاربة البطالة والكساد. لقد استطاعت الكينزية إنقاذ الاقتصادات الغربية من كساد الثلاثينيات وتداعيات ما بعد الحرب العالية الثانية، حيث استطاعت الدولة بتدخلها من إضعاف حِدة هذه التقلبات لمدة عقدين من الزمن (الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي)، وأنقذت المجتمعات الغربية، وقادت اقتصاداتها إلى الرفاه، وما صحبها من كساد اقتصادي منذ الثلاثينيات وإلى الخمسينيات. لكن ومع تحول النظام العالمي إلى قطب واحد واشتداد الأزمة الاقتصادية في السنوات الـ 25 الأخيرة، وتراجع معدلات الأرباح، جعل بعض الاقتصاديين، وعلى رأسهم فريمان من جامعة شيكاغو يروجون لليبرالية الاقتصادية الجديدة. ويمكننا أن نرى "النيو ليبرالية" على نطاق عالمي، حيث أخذت تطفو على السطح نظرية هايك النقيض والمعاكسة لكنز، لتنادي بإطلاق الحريات والمهارات التجارية للشركات، وحماية حقوق الملكية الخاصة والأسواق الحرة. ويقتصر دور الدولة فيها على إيجاد الإطار المؤسساتي الضامن لتلك الممارسات، مع تراجعها عن تقديم الخدمات الأساسية وخصخصتها للقطاع الخاص. خارج نطاق هذه المهام يجب على الدولة أبدا ألا تغامر بالتدخل في الميدان الاقتصادي إلا في أدنى المستويات الضرورية. هذه الليبرالية الجديدة وجدت التطبيق العملي لها على يدي التحالف "النيوليبرالي" الذي مَثَّلَه كل من رئيسة وزراء بريطانيا تاتشر التي انتخبت لتوها بتفويض يخولها كبح سلطة نقابات العمال، والرئيس ريجان الذي انتخب عام 1980، فاستطاع وضع الولايات المتحدة على طريق الانتعاش الاقتصادي عبر سياسات هدفت إلى لجم قوة العمل وتحرير قطاعات الصناعة والزراعة والاتصالات والموارد والثروات من القيود الناظمة المفروضة عليها، وخصخصتها للقطاع الخاص، تحت مظلة دعاوى الديمقراطية وإطلاق الحريات وعلى رأسها حرية السوق، مدشناً مرحلة النظام العالمي الجديد وممهداً الطريق لبوش الأب. وعلى الرغم من أننا ندعي ونردد دائماً أننا ننتهج نهج الاقتصاد الحر الذي تتمتع فيه السوق بالحرية، ويلعب فيه القطاع الخاص دور الشريك للقطاع الحكومي، خاصة فيما يُطرح من برامج وما يصدر من قرارات في مواجهة تحديي البطالة وتوطين سوق العمل، نجد أن اقتصادنا يستند متعثراً على النظريتين الاقتصاديتين معاً في مواجهته لهذه التحديات، ويحاول الجمع بين النقيضين. فهو مع تدخل الحكومة بشكل شبه مطلق، منفردة بتحديد مسارات النشاط الاقتصادي وسوق العمل .. وهو مع الأسواق المفتوحة في الوقت ذاته! وكأنما فات علينا أن السياسة المالية للدولة السعودية التي تهدف إلى تطبيق برامج ومشاريع تنمية شاملة ومستدامة هي سياسة توسعية متوازنة تعتمد زيادة الإنفاق الحكومي وتخفيض الضرائب، ما يفرض دوراً أكبر للقطاع الخاص للمشاركة في سياسات وتوجهات سوق العمل. ويبدو هذا التوازن في السياسات الاقتصادية للمملكة واضحاً في مخصصات الإنفاق الحكومي على بند الخدمات والتنمية البشرية في الميزانية العامة للدولة (التعليم الصحة الضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية) حتى لغير المتخصص في الاقتصاد. وهذا التناقض في المنهجية هو سبب البلاء، وليس سببه أي "أياد خفية" كما يظن وزير العمل. وما إخفاقنا في قضايا البطالة وتوطين سوق العمل إلا نتيجة متوقعة لهذا التعثر في محاولة الجمع بين النقيضين، إذ اختلط حابل الكنزية بنابل الليبرالية الجديدة. لقد أطلقنا العنان لوزير واحد، ومن غير خطة استراتيجية تكون متناغمة مع الخطة الوطنية التنموية العامة، فكان لا بد من تخبط القرارات وتناقضها مع كثير من توجهات الاستراتيجية الوطنية للتنمية.
إنشرها