لا يذهب العرف بين الله والناس

تحلق الأولون حول الراوي الذي كان يحكي قصص الشهامة والنخوة والشجاعة التي تميز بها أشخاص عُرفوا بأسمائهم أو كانوا من قبيل الرمزية، التي حاول المجتمع أن يشخصنها في أبنائه كعنصر من عناصر التفوق والتميز على الآخر، تلك الحكايا فيها الصحيح وأغلبها خيالي.
الهوس الذي كان يدفع الناس للتعلق بالأسطورة هو نتيجة منطقية لفقدان الأمن الذي كان يميز الجزيرة العربية في سابق عهودها. اختفت الحاجة للأساطير والقصص الخيالية مع استتباب الأمن وظهرت أنواع أخرى من القصص التي يحتاج إليها العقل الجمعي كمشاهد الإنقاذ في السيول، والتصدي الفكري للثوابت التي ظهر ما يخالفها، والخطب الحماسية لمحاربة الانهزام الذي تعيشه الأمة.
لعل أخطر ما ظهر على الساحة الاجتماعية والسياسية والدينية، الذي أثر بقوة على مفاهيم الشباب، وكان نتيجة حتمية لهزال المناهج التعليمية وضياع مسؤوليات وأدوار أفراد الأسرة، بسبب حالة الفراغ السائدة، ومحاولات التقليد الفاشلة للحضارات التي تقود العالم اليوم، وحالة ''الفصام'' التي يراها شباب الأمة بين الواقع والنظريات، التي ينادي بها أشخاص من فوق المنابر.
خطر تفجير الجسد لتحقيق مآرب عليا، وتفجير المبنى، لأنه يحوي ساكناً كافراً، والالتحاق بمواقع ''جهادية'' طلباً للشهادة التي يكتشف طالبها أن الذين يقاتل معهم ولنصرتهم يرتكبون أكبر الكبائر ويتاجرون بمدمرات العقل والجسد. تلك الأخطار هي نتيجة حتمية لما نعانيه من قصور في نواحي التربية، وما يشاهده أبناؤنا من ضعف الأمة وفقدان المسلمين موقعهم الحتمي والحق في العالم اليوم.
دفعني موقف رائع كان بطله الحقيقي شاب من أبنائنا. شخص يعيش بيننا ونشاهده في شوارعنا ومجالسنا. يحضر المجالس ولا يفكر بأن يقص قصته البطولية على أحد، بل إن أباه الذي رباه لم يتوقع منه ذلك، ولكن توقع البطولات من الأبناء يخالف مفاهيمنا الأسرية التي ننسبها دوماً للأجداد والآباء. لم يذكر الأب قصة ابنه إلا مضطراً وإليكم قصة شاب سعودي بسيط ممن ترونهم كل يوم:
كان الشاب مسافراً من الطائف إلى مقر عمله في مدينة الرياض، لاحظ وجود سيارة معطلة على كتف الطريق وكان الوقت قليل الحركة، لكنه لاحظ أمراً آخر، فالسيارة تقل أسرة ويبدو أن هناك من يحاول أن يعتدي على الأسرة، إنهم قطاع الطرق الذين كنا نتوقع أنهم اختفوا من المملكة.
توقف الشاب، وأخرج سلاحه الشخصي وأطلق طلقات تحذيرية باتجاه المجرمين الذين لم يكن معلوماً ما يخططونه للأسرة المغلوبة على أمرها، لاذ الخساس بالفرار، وأنقذ الله الأسرة على يد هذا الشاب الشجاع. أخذ الشاب الأسرة إلى حيث الأمان، وتركهم بعد أن اطمأن عليهم.
تمر هذه القصص ــــ وإن ندرت ــــ في مجتمعنا مرور الكرام، لكن الوضع لم يكن كذلك مع هذا الشاب، فما إن علمت القبيلة التي تنتمي إليها الأسرة ''الناجية''، حتى توجهوا لأهل الشاب، وعبروا عن امتنانهم وأسرفوا في إبراز تقديرهم، لكنهم لم يكتفوا بذلك.
كانت مناسبة زواج الشاب هي الفرصة التي اقتنصها شاعر وشيخ وأبناء القبيلة للتعبير عن تقديرهم لمعروف هذا الشاب وإبرازه وإخبار الجميع بمدى امتنانهم وحفظهم معروفه فحضروا وقدموا الهدايا والأموال وأقاموا حفلاً، لم أر ما يضاهي جماله ومتعته وفرحه.
تلكم أيها السيدات والسادة هي الأخلاق التي نحتاج إليها اليوم، تلكم هي القصص الحقيقية التي نتمنى أن يكون أبناؤنا أبطالها. وليعلم مختصو التربية والدعوة والآباء والأمهات أن غرس مفاهيم الشجاعة والشهامة ونجدة المحتاج والوقوف مع الضعفاء، هي مهمتهم الكبرى. إنها تنبع من قيم ومبادئ ديننا الحنيف وهي ضرورة لحماية أبنائنا من الاندفاع في مهاوي الفكر التفجيري أو التغريبي أو الإقصائي أو السلبي الذي يعيش على هامش الحياة، ويتغذى على ما ورثه من مال وجاه وبطولات قد تصدق وقد تكون مجرد أساطير.
كما أن السلوك الشاكر الذاكر المقدر لما يكون من أعمال وبطولات هو السلوك الذي يجب أن نحتفل به. تكاملت في هذه القصة عناصر أهمها أن من استفادوا من بطولة هذا الشاب، هم الذين ذكروه وشكروه، بعكس ما يسود اليوم من النكران وتقليل شأن الآخرين. تظهر مثل هذه الحالات التي تذكر فتشكر ونتمنى أن تنتشر. وما أجمل أن يسكت صاحب المعروف، وهي خصلة قال فيها المولى- جل وعلا- ''يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى''، ويتحدث من استفاد من المعروف فيصدق عليه قول رسول الله ـــ صلى الله عليه و سلم ـــ ''مَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي