Author

لغز ظاهرة انتشار الصيدليات في المملكة

|
مختص بالأسواق المالية والاقتصاد
انتشار الصيدليات في المملكة ظاهرة غريبة كتب عنها كثير من الناس، وذكرت أسباب عدة، تنوعت بتساؤلات عما إذا كنا كشعب نعاني أمراضا كثيرة ومتكررة ما يجعل الحاجة ملحة إلى إيجاد صيدلية في كل مكان. وهناك من رأى أن السبب يعود إلى عدم قدرة المستشفيات الحكومية على استيعاب المرضى ما يجعل كثيرا من الناس يتجه للصيدليات للعلاج، فيقوم الصيدلي مقام الطبيب. أما من نظرته سوداوية فقد يستغل كونها ملاذاً لمتعاطي المخدرات ممن يجد في بعض العقاقير الطبية إشباعاً لإدمانه. وهناك من يظن أن الصيدليات مجرد وسائل لغسل الأموال تمكن الخارجين عن القانون من إدخال عملاتهم الورقية إلى النظام المصرفي. وهناك أسباب كثيرة ذُكرت هنا وهناك، إلا أني أرى أن السبب الرئيس اقتصادي بحت، سببه التدخل الحكومي القاصر في تحديد أسعار الأدوية المستوردة واستغلال أصحاب الصيدليات هذه الثغرة لتحقيق أرباح كبيرة نتيجة اختلاف أسعار صرف العملة. بحسب الكتاب الإحصائي السنوي لوزارة الصحة لعام 2011، يصل عدد الصيدليات في المملكة إلى 6373 صيدلية، تتمركز بشكل كبير في الرياض وجدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة، حيث الكثافة السكانية عالية. ولا توجد صعوبة كبيرة في فتح الصيدليات، حيث تشترط اللائحة التنفيذية لنظام المنشآت والمستحضرات الصيدلانية أن يكون المالك أو أحد الشركاء يحمل شهادة صيدلة، وألا يزيد عدد الصيدليات للمالك الواحد على 30 صيدلية، وتكتفي أمانات المناطق بشرط عدم إقامة صيدلية عند أقل من 100 متر عن صيدلية أخرى. لمعرفة الخلل في تسعير الأدوية أشير إلى أن وزارة الصحة لديها آلية لتحديد نسبة الربح من مبيعات الأدوية للصيدليات ومستودعات الأدوية تبدو في ظاهرها جيدة، حيث إن نسبة ربح الصيدلية من سعر الدواء تصل إلى 20 في المائة للأدوية المسعرة بـ 50 ريالاً فأقل، وتنخفض إلى 10 في المائة للأدوية التي سعرها أكثر من 200 ريال. وهذه بلا شك نسبة أرباح قليلة لا يمكن أن تغري بفتح صيدلية، مقارنة بمجالات تجارية أخرى كثيرة، لا مجال لاستعراضها هنا. المشكلة تكمن في كيفية تسعير الأدوية المستوردة من دول لها عملات غير مرتبطة بالدولار، وبالتالي أسعار صرف عملاتها تكون متقلبة أمام الريال السعودي، وهي بالذات الأدوية المسعرة باليورو. لمعالجة المشكلة التي أوقعت وزارة الصحة نفسها فيها - أي محاولة تحديد أسعار الأدوية - قررت الوزارة أن يُعمل بسعر صرف رسمي لليورو لتحديد سعر الدواء الذي يدفعه الزبون، بعد أن يضاف إليه هامش الربح الخاص بالصيدلية. وبسبب صعوبة متابعة العملية، قررت وزارة الصحة أن تكون عملية تحديد سعر الصرف مرة واحدة كل عام ونصف العام، إلا في حال أن انخفض سعر صرف اليورو (أو غيره من العملات الأوروبية) إلى أكثر من 10 في المائة في فترة معينة، فيحق للوزارة تعديل سعر الصرف. هنا مكمن الخلل وسبب انتشار الصيدليات، وليسمح لي القارئ ببعض التفصيل مع بعض التبسيط لمجرد إيصال الفكرة. لنأخذ مثالاً لدواء فرنسي يباع بسعر 1 يورو واصلاً إلى الصيدلية، ولنفرض أن سعر الصرف المحدد من قبل الوزارة قبل عام هو 1 يورو = 5 ريالات. إذاً بحسب الآلية المتبعة فإن سعر الدواء سيحسب على أنه السعر الذي يحقق للصيدلية ربحا بنسبة 20 في المائة من سعر البيع (بحسب اللائحة التنفيذية)، فيكون السعر المطبوع على الدواء مبلغ 6.25 ريال، يفترض أن يذهب منها خمسة ريالات للمصنع ويذهب مبلغ 1.25 ريال كربح للصيدلية. إلا أن الواقع يخالف ذلك دائماً بسبب تقلب سعر الصرف. فلو أن سعر اليورو انخفض إلى أربعة ريالات، فالصيدلية ستدفع فقط أربعة ريالات للمصنع وتحتفظ بـ 2.25 ريال كربح، فتكون نسبة الربح 36 في المائة، لا 20 في المائة كما تعتقد الوزارة. إذاً، طالما أن اليورو في انخفاض فالصيدليات ستحقق أرباحاً عالية جداً، ولكن ماذا لو ارتفع اليورو؟ لقد حدث ذلك بالفعل من عام 2001 حتى منتصف عام 2008، حيث ارتفع اليورو من 3.20 ريال لليورو الواحد إلى أن وصل إلى نحو ستة ريالات، وهذه من المخاطر التي تتعرض لها الصيدليات بسبب آلية التسعير المخلة، فتجد المطالبات تعلو من قبل أصحاب الصيدليات لتعديل سعر الصرف المتبع، ويقابل ذلك - إن رضخت الوزارة لهذه المطالب - علو في صيحات المواطنين تذمراً من ارتفاع أسعار الدواء. وعلى الرغم من ذلك، فملاك الصيدليات لا يمانعون الدخول في آلية المقامرة هذه، وتعويض أي نقص في أرباحهم عندما يهبط اليورو مرة أخرى، وهو الأمر الواقع منذ عام 2008 حيث يستمر اليورو في الهبوط إلى الآن. سبب انتشار الصيدليات أمر واضح، وهو مراهنة ملاك الصيدليات على أن وزارة الصحة لن تستطيع ضبط أسعار الأدوية إطلاقاً، وأن الحسبة النهائية ستكون في صفهم، لأنه في حال تراجع اليورو ستكون أرباحهم عالية، ولمعرفتهم التامة بدرجة البيروقراطية والبطء الشديد في وزارة الصحة، فسيمضي وقت طويل قبل أن تعدل الوزارة سعرها الرسمي. وفي حال ارتفاع سعر الصرف، فسيضغط الملاك على الوزارة لتعديل سعر الصرف لمصلحتهم في أسرع وقت ممكن. كما أن من لا يحسن الظن بأصحاب الصيدليات ومستودعات الأدوية، يعتقد أن هناك إمكانية التلاعب بحقيقة بلد المنشأ، الأمر الذي يقلب الموازين تماماً ويجعل من الصيدليات مرتعاً لأرباح فاحشة. الثغرة التي قد تستغل هنا، هو أن وزارة الصحة تحدد سعر الدواء باليورو، على فرض أن الدواء بالفعل مستورد من منطقة اليورو. وعليك أن تتخيل كيف لو أن أدوية صينية أو حتى أمريكية سُعرت باليورو، ومقدار الربح الناتج عن ذلك. وللتدليل على قوة ضغط ملاك الصيدليات على وزارة الصحة لتعديل الأسعار عندما يخسرون في مقامرتهم مع اليورو، حدث أن قامت الوزارة في أول عام 2005 بتعديل سعر صرف اليورو بشكل كبير، وثبتته لمدة عام ونصف عند 5.031 ريال، بينما كانت الآلية المعلنة أن يؤخذ متوسط سعر الصرف للفترة الماضية، أي كان من المفترض أن يثبت السعر عند 4.300 ريال، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الأدوية بنسبة 38 في المائة. ختاماً، إن آلية تسعير الأدوية المستوردة غير سليمة، ولأنها لا تكلف وزارة الصحة أي مبالغ مالية، كون الوزارة تنظم العملية فقط، فلا يبدو هناك دافع قوي لتعديلها. وبالطبع إن الربح المتحقق لملاك الصيدليات من انخفاض سعر اليورو من الأولى أن يذهب للمواطن، خصوصاً إذا علمنا أن سوق الدواء لدينا يتجاوز ستة مليارات ريال سنوياً، ونحو نصف الأدوية تأتي من أوروبا. إذاً إن الآلية المتبعة مخلة وفيها بخس لحق المواطن، وبخس لحق مصانع الأدوية الوطنية، بسبب ميل الصيدليات لتسويق الأدوية الأوروبية، وهذا يتم – مع الأسف - بمعرفة وزارة الصحة، التي ربما لم تجد الحل المناسب، أو لم تفكر في الموضوع من ناحية اقتصادية – كونها وزارة صحة في نهاية الأمر – ما أوجد لدينا بيئة عجيبة تنتشر فيها الصيدليات كالنار في الهشيم. وعلى أمل أن تكون هناك فرصة للكتابة عن الموضوع مرة أخرى للتوسع في شرح الآثار الناتجة واستعراض بعض الحلول الممكنة.
إنشرها