خمسة دروس مستفادة من تجربة قبرص !!

ما مرت به قبرص الشهر الماضي يدعو للعجب، جزيرة صغيرة الحجم من أوائل الدول التي انضمت لمنطقة اليورو تحدث اضطراباً لم يؤثر على أوروبا فحسب، وإنما هز الأسواق العالمية جميعها. ملخص ما حدث أن قبرص ارتأت فرض ضريبة على المودعين في البنوك بهدف جمع الأموال اللازمة لها لإنقاذ أكبر بنكين في الدولة، لأن البنك المركزي الأوروبي اشترط عدم إعطاء المبلغ كاملاً، مما دفع المواطنين والمستثمرين الأجانب إلى التدافع لأجهزة الصراف الآلي لسحب ما يتسنى لهم من أرصدتهم للنفاذ من هذه الضريبة المفاجئة. البنك المركزي الأوروبي تفادى تفاقم المشكلة بإلغاء القرار في اليوم التالي، واكتفت قبرص بفرض الضريبة على المودعين الذين تتجاوز ودائعهم ١٠٠ ألف يورو .
خمسة دروس تستخلص من تلك الحادثة :

١- بالرغم من صغر حجم قبرص مساحةً ووزناً اقتصادياً، إلا أن الاتحاد الأوروبي لم يتردد بضمها لمنطقة اليورو عام ٢٠٠٤ طالما استوفت الشروط المفروضة. علماً بأن قبرص ليست كلها تابعة للاتحاد الأوروبي، فالجزء الشمالي من الجزيرة القبرصية تابع لتركيا التي لم تنضم لمنطقة اليورو. أما من الناحية الاقتصادية، فلا تشكل قبرص إلا حوالي ٠.٢٪ أي ٢ بالألف فقط من إجمالي الناتج المحلي لمنطقة اليورو، إلا أن البنك المركزي الأوروبي لم يتخل عنها ولم يتقبل فكرة إخراجها من اليورو بأي شكل من الأشكال. مما يوضح لنا حجم الإرادة السياسية الفعالة في دول منطقة اليورو، خاصةً عند قائدة الاتحاد غير المتوجة ألمانيا.

٢- اعتراف البنك المركزي الأوروبي – وهو ثاني أكبر بنك مركزي في العالم بعد الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة – بخطأ قرار فرض الضرائب على جميع الودائع في اليوم التالي من صدوره، وتصحيحه بالشكل المناسب وبسرعة بحيث يشمل فقط من تزيد ودائعهم عن ١٠٠ ألف يورو. يستفاد من ذلك سرعة الإجراءات البعيدة عن البيروقراطية وردة الفعل المناسبة في الوقت المناسب حين اكتشاف خطأ القرار .

٣- الحذر من الاستثمار في الدول الأوروبية المثقلة بالمشاكل المالية في الوقت الراهن. فبالرغم من تصريح ماريو دراغي، محافظ البنك المركزي الأوروبي، بأن ما حدث في قبرص من فرض ضرائب على المودعين لن يتكرر على دول اليورو الأخرى، إلا أنه من الصعب تصديق هذا الوعد. فقد قيل سابقاً أن ما حدث في اليونان لن يتكرر ورأينا أسبانيا والبرتغال وايرلندا وايطاليا تقع في ذات المشاكل. فكيف نصدق الآن ؟ لا نستطيع أن نلوم دولة على إنقاذ بنوكها الكبرى، فقد حدث ذلك بالفعل في الولايات المتحدة فلم لا ينتقل إلى أوروبا؟ ولكننا لا نستطيع التكهن بالطريقة التي ستكون فيها ردة فعل أي دولة في سبيل ذلك بعد الآن.

٤- كون الاقتصاد ملاذاً للأموال مجهولة المصدر قد يتحول إلى نقمة بأسرع مما نتوقع. فقد كانت قبرص من أكثر الدول ملاذاً للتهرب الضريبي عالمياً، وأكبر عملائها من رجال الأعمال والشركات الروسية وموظفي الحكومة الروس الباحثين عن مكان لحفظ أموالهم المهربة بأقل تكلفة ممكنة، ومن غير المصادفة أن نعلم بأن أولئك الروس كانوا سباقين في تحويل ودائعهم خارج قبرص منذ نحو عامين حين بدأت مشاكل اليونان تتفاقم، فقد استشعروا بأن القطاع المالي القبرصي سيكون أكبر المتضررين، وهو ما حصل بالفعل. ولو أن الودائع الروسية وحدها خرجت بالكامل، فقد يخسر القطاع المالي القبرصي ما يساوي حجم الناتج المحلي القبرصي بأكمله أو أكثر، مما يوضح حجم سيطرة الأموال الخارجية على الاقتصاد القبرصي الصغير.

٥- الاتحاد النقدي بين دول اليورو لم يعد كافياً لإدارة الوضع الاقتصادي في المنطقة، أصبح من الضروري على مسؤولي منطقة اليورو الاستعجال في إيجاد حل بخصوص القطاع المالي. أحد الحلول المقترحة توحيد أنظمة القطاع البنكي بين الدول، ذلك سيضمن لهم المزيد من الشفافية وسهولة المراقبة. وبالرغم من أن معظم التحليلات تستبعد اتفاق دول اليورو على آليات بنكية موحدة، إلا أن الخطوة أصبحت الآن ضرورية أكثر من أي وقت مضى، فما حصل في قبرص يحث البنوك في المنطقة على رفع رأس المال أكثر مما هو الآن. الحل الآخر هو توحيد السياسات المالية بين الأعضاء بحيث يكون اتحاد منطقة اليورو مالياً بالإضافة إلى كونه نقدياً، مما يشمل توحيد السياسات الضريبية والإنفاق الحكومي. قد يبدو أن كلا الأمرين صعب التحقيق ولكن بقاء الوضع كما هو عليه الآن لن يمنع حدوث أزمات مستقبلية في دول أخرى.

تلك الدروس ليست لدول منطقة اليورو فحسب، وإنما نستطيع نحن في دول الخليج المقبلة على الاتحاد النقدي الاعتبار منها أيضاً. فدول الخليج بنت أسس ومعايير الاتحاد النقدي المرتقب بناءً على تلك المطبقة في منطقة اليورو، ليس لشيء وإنما لكون منطقة اليورو الاتحاد النقدي الوحيد في العالم حتى الآن. دول الخليج ليست بعيدة عما حصل في قبرص، ولنا في دبي خير مثال، فالأموال الخارجية التي تدخل الدولة بهدف غير واضح دائماً ما تحدث اضطراباً في نظامها البنكي يكون ضحيته المواطنون. بالإضافة إلى ذلك، فلم لا يكون الاتحاد النقدي الخليجي أكثر انفتاحاً للدول المجاورة الراغبة في الانضمام، كاليمن مثلاً، فانضمام اليمن الشقيق قد يعطي قوة أكبر للاتحاد من خلال حجم العمالة المنخفضة التكلفة التي قد يستفاد منها في دول الاتحاد الأخرى خاصةً بعد تطبيق اتفاقية حرية انتقال عناصر الإنتاج "ومنها العمالة" بين دول الاتحاد بكفاءة، كما تتميز اليمن بالموقع الجغرافي التجاري المميز الذي قد يستفاد منه في نقل النفط بعيداً عن مشاكل مضيق هرمز.
بعد كل هذه الأحداث، يتعين على دول الخليج التمعن في تجربة اليورو النقدية والتريث لنرى ما إذا كانت ستطبق الاتحاد المالي أم لا، فبالرغم من الاختلافات الهيكلية في السياسات المالية ما بين دول الخليج النفطية وتلك القائمة في الدول الأوروبية المعتمدة على الإيرادات الضريبية، إلا أن الأوضاع المالية في دول الخليج ليست متطابقة تماماً ما بين الدول. الأمر الآخر، يشكك الكثير من الاقتصاديين في جدوى قيام منطقة اليورو من الأساس ويعتقدون بأنها كانت فكرة سيئة، لأن الأمور أصبحت أكثر تعقيداً مما بدت عليه في البداية، لذلك فالتريث والانتظار في أمر الاتحاد النقدي الخليجي ليس أمراً سيئاًَ.

المزيد من مقالات الرأي