التوظيف يدمر الاقتصاد

التوظيف يدمر الاقتصاد

يعاني الاقتصاد السعودي العديد من المشاكل المؤرقة والتي مازالت تتفاقم مع الوقت رغم الطفرة المالية الهائلة التي تشهدها البلاد في السنوات الأخيرة. وأكبر هذه المشاكل هي (البطالة والتضخم وأزمة الإسكان). - فالبطالة، وفقا للأرقام الرسمية (والتي في الغالب تكون غير دقيقة أو أقل من الواقع) بلغت 12% وهي نسبة عالية جداً، فالاتحاد الأوروبي رغم كل الظروف القاسية والكساد الذي يمر به معظم أعضاءه لم يتجاوز 11% وكذلك أمريكا التي تشهد أوقات اقتصادية صعبة لم تتجاوز نسبة البطالة فيها 7,8%. - أما التضخم، فقد ارتفع خلال الأربعة سنوات الماضية بنسبة 25% (أي بمعدل 6,3% سنوياً) ما يعني بشكل آخر أن دخل الفرد أنخفض بحوالي الربع خلال هذه الفترة. علماً أن التضخم لا يمكن تجنبه نهائياً خاصة وأن الإنفاق الحكومي عالي جداً والدولة عازمة على المضي قدماً في تنفيذ المزيد المشاريع ولكن بالتأكيد التضخم المستورد يعلب الدور الأكبر وذلك لأننا دوله مستوردة من الطراز الأول، فعلى سبيل المثال: أي إرتفاع في التضخم تشهده ألمانيا وينعكس على تكلفة صناعة السيارات لديها ويؤدي إلى إرتفاع سعرها، سوف يدفع المستهلك السعودي قيمة هذا الارتفاع عند شراءه هذه السيارة. وأيضاً ارتباط الريال بالدولار له دور، فعندما تواجه أمريكا ركودا، فإنها تقوم بخفض نسبة الفائدة على الدولار لتشجيع الإقراض ومن ثم تحريك الاقتصاد وتجنب الركود. ولكننا في السعودية نواجه طفرة وانتعاش اقتصادي فبدل أن نقوم برفع نسبة الفائدة للسيطرة على التضخم والتحكم بالسيولة المعروضة فإننا تقوم بخفض الفائدة لارتباط الريال مع الدولار مما يؤدي لاستمرار زيادة التضخم!. - الصورة بالنسبة للإسكان أكثر تأزماً فمؤشر العقار الصادر من وزارة العدل يشير إلى ارتفاع متوسط سعر المتر المربع (السكني) في مدينة الرياض بأكثر من 40% و (التجاري) بأكثر من 150% خلال آخر 3 سنوات. بالتأكيد ارتفاعات لا تصب في مصلحة الاقتصاد بأي شكل من الأشكال حيث أن ارتفاع أسعار الأراضي لا يضيف للناتج المحلي وإنما يساهم فقط في استنزاف دخل الفرد بشكل غير مبرر. السعودية بلد مستهلك بشكل مخيف والإنتاج المحلي في شتى المجالات ضعيف جداً والاعتماد على البترول بنسبة 90% في موازنة الدولة يشكل خطراً حقيقا في حال أنخفض سعر البترول أو في حال قامت الدول المستوردة للنفط بتطوير أنواع الطاقة الجديدة بشكل اقتصادي مربح. لذلك يجب أن يصاحب (عملية التصحيح) (تغيرٌ في نمطية التفكير).. وأول خطوات هذا التصحيح هو عدم الاعتماد على الدولة في توفير مزيد من الوظائف، فالثقافة السائدة في البحث عن الوظيفة الحكومية أنها أكثر أمانا وأقل إنتاجيةً تعتبر من أخطر الظواهر على أي اقتصاد؛ لأنها تشكل عبأ كبيرا على ميزانية الدولة. فلا يعقل أن تذهب قرابة 20% من ميزانية الدولة في مجرد دفع الرواتب، كما أنها تقتل الطموح والإبداع. والمقلق هو زيادة عدد الموظفين الحكوميين بشكل كبير جداً بشكل سنوي، رغم أن معظم دول العالم تقلص عدد الموظفين الحكوميين وذلك من خلال الحلول البديلة والحكومات الالكترونية. فعلى سبيل المثال: بلغ عدد موظفي القطاع العام في أمريكا عام 1962 قرابة 5,5 مليون موظف، واليوم وبعد مرور 50 عاما انخفض العدد إلى 4,6 مليون. وفي بريطانيا هناك قرابة 30 مليون عامل في القطاعين العام والخاص، منهم 5,8 مليون موظف في القطاع العام فقط، (أي أن مقابل كل موظف حكومي هنالك 5 أو 6 يعملون في القطاع الخاص). الوضع في السعودية يخالف كل الموازين فمقابل كل سعودي يعمل في القطاع الحكومي هناك نصف سعودي يعمل في القطاع الخاص! حيث أن لدينا حوالي 1.3 مليون سعودي يعملون في القطاع الحكومي وحوالي 700 ألف سعودي يعملون في القطاع الخاص. تغيير نمطية التفكير التي دعوت لها تكمن في تحفيز السعوديين لدخول القطاع الخاص كأصحاب عمل وأصحاب مشاريع صغيرة وليس الدخول كموظفين في القطاع الحكومي، فالسوق السعودي مازال ناشئا والأمثلة على نجاح المشاريع الصغيرة لا تعد ولا تحصى. ولا يمكن بأي حال تقليل الإعتماد على النفط دون أن يتم دعم المنشآت الصغيرة، ففي جميع الدول التي عانت من أزمات اقتصادية كان الداعم الحقيقي للخروج من هذه الأزمات هو المؤسسات الصغيرة، ففي بريطانيا على سبيل المثال هناك اليوم 4,8 مليون مؤسسة، 96% منها يوظف 9 عمال أو أقل. العظيم في الموضوع أن هذه المؤسسات الصغيرة تساهم في اقتصاد بريطانيا بتوظيف ثلث القوى العاملة وتخلق سنوياً حوالي 1,5 مليون وظيفة جديدة. وفي اليابان كذلك يمثل العاملون في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ما نسبته 41% من حجم القوى العاملة، وبالتأكيد أن الوضع لديهم متطور جداً فثقافة المؤسسات الصغيرة في أكمل درجات النضج، وهي مدعومة من الدولة والشركات الكبرى. فشركة تويوتا كمثال تستخدم حوالي 10,000 قطعة في تصنيع سياراتها ولكنها لا تصنع سوى واحدة منها بشكل مباشر وهي مكينة السيارة، أما باقي القطع مثل الحديد والالكترونيات والمسامير والعجلات وغيرها فإنها تحصل عليها بشكل مباشر من مصانع أصغر منها. الوضع لدينا مختلف فمعظم فوائد وخيرات الطفرة الأخيرة لم تصل لمعظم المواطنين بشكل مباشر وذلك لعدم وجودهم في ساحة الأعمال أساساً واكتفائهم بالوظيفة، وللأسف كانت آثار الطفرة عليهم سلبيه بسبب التضخم وارتفاع الأسعار. دعم الدولة ضروري وهو ليس عن طريق المال فقط، فنحن نريد إراحة ميزانية الدولة وليس إضافة المزيد من العناء عليها، ولذلك دعم الدولة الأهم يكون في سن القوانين والتشريعات التي تدعم المؤسسات الناشئة والصغيرة، وهذه أمثلة لبعضها: 1) تبسيط إجراءات إنشاء المؤسسات والحصول على التراخيص اللازمة. 2) تسهيل دخولهم في مناقصات الدولة. 3) إلزام الشركات الكبيرة المتعاقدة مع الدولة بالاستيراد والتعامل مع المؤسسات الصغيرة داخل المملكة. 4) الاستمرار في تسهيل الحصول على التمويل اللازم، سواء عن طريق البنوك التجارية أو صناديق الدولة الداعمة. 5) منع الاندماجات التي تقوي وضع الشركات الكبيرة وتضر بشكل مباشر المؤسسات الصغيرة. 6) دعم تصدير منتجات المؤسسات الصغير لخارج المملكة. أما ما نراه اليوم من إرتفاع أسعار العقار والإيجارات للمحلات التجارية فهو يهدف بشكل مباشر لزيادة تضخم ثروات العقاريين وبشكل غير رسمي لإخراج صغار المستثمرين من السوق، وهو ما أشار إليه نائب رئيس غرفة مكة المكرمة عندما قال: "إن ارتفاع أسعار العقار في المنطقة المركزية تسبب في هجرة تجار مكة المكرمة وتركهم محلاتهم وإغلاقها، لتحل بديلاً عنها الشركات العالمية الكبرى التي تستطيع دفع الإيجارات المرتفعة التي تصل لمليون ريال للمحل الواحد". الشباب السعودي طموح وقد أثبت كفاءته في كل المجالات لكن يجب دعمه لكي يساهم بشكل مباشر في إنتاجية الدولة واقتصادها. المطلوب فقط هو توجيهه بالطرق المناسبة وتذييل العقبات له، أما ترك أسعار الإيجارات في الارتفاع بهذا الشكل وفي نفس الوقت تلميع الوظيفة الحكومية وتمييزها بساعات الدوام وأيام العمل وطول الإجازات وضمان العلاوات فهو ضار ومرهق لموازنة الدولة وسلبي لإنتاجها. وبكل واقعية فإن كل مجهودات "سعودة وتطوين" الوظائف ممتازة، ولكن لها حد أقصى فحوالي 86% من وظائف الأجانب في السعودية ذات دخل شهري أقل من 2,000 ريال وهي وظائف غير قابلة للسعودة وحتى وإن قبل بها السعودي فإنها لن توفِ بالحد الأدنى من التزاماته في الحياة. هناك العديد من المبادرات الحكومية والخاصة لدعم المشاريع الصغيرة كبرنامج كفالة وغيرها من حاضنات الأعمال والكل شاهد على قصص النجاح التي ساهمت فيها، سواء ورش سيارات أو مطاعم أو مكاتب محاماة أو مصانع صغيرة أو مشغل للملابس والأمثلة واقعية وعديدة، فهذه المشاريع تساهم بشكل مباشر في توظيف الشباب وتوزيع الثروات بشكل أوسع وتحريك الاقتصاد بشكل صحي، ولكن هذه المبادرات والبرامج ليست بالحجم الكافِ التي تجعلها تساهم بشكل حقيقي في حل مشاكلنا الاقتصادية، لذلك كل ما علينا هو العمل على زيادة هذه المؤسسات الصغيرة ودعمها بشكل حقيقي بحيث يصبح لها ثقل في اقتصاد البلد ويكون لدينا اقتصاد قوي مبني على الإنتاج يمكننا من تحسين الميزان التجاري ومواجهة الصعوبات في المستقبل والتخلي عن الاعتماد الكلي علي النفط وأسعاره المرتفعة.
إنشرها

أضف تعليق