تآمر الكبار

ممارسة الازدواجية في تطبيق المعايير الأخلاقية والمهنية والمصرفية من قبل السلطات في الوسط المصرفي الغربي لم تعد بالأمر المستغرب أو حتى المستهجن. ففي الوقت الذي يبعث فيه رئيس مصرف باركليز رسالة إلى موظفي البنك يعترف فيه بانزلاق البنك في ممارسات غير أخلاقية شوهت سمعته وصورته, ويعد فيه بالتغيير ويهدد كل من يقاوم الإصلاح بالفصل, نلاحظ أنه هو نفسه ومجلس إدارته يقاومون, وبكل ما أوتوا من قوة الإفصاح عن كل الموظفين المتورطين في قضية التزوير والتآمر للتأثير في أسعار (اللايبور). وهذا كله يضع رئيس المصرف في خانة المناور الذي يريد أن يطفئ غضب الرأي العام وليس المصلح الذي يريد تغيير الواقع (المنحط) لمصرفه. ومع الأسف الشديد, أن جهات التحقيق في الغرب, سواء في بريطانيا أو في الولايات المتحدة, حين تكتفي بفرض الغرامات التي وصلت إلى مليارات الدولارات, لا تبدو للمراقب على أنها جادة في اجتثاث الفساد المصرفي الذي غذى وسهل نمو عصابات الاتجار بالمخدرات في أمريكا الجنوبية, كما سهل ومهد للمنظمات والدول الإرهابية لتمرر إرهابها وشرها في العالم, بل على العكس تبدو بمظهر من يريد حصته من كعكة الأرباح التي وصلت إلى مبالغ أصبحت معه كثير من مصارف الغرب أغنى من كثير من الدول التي تعمل فيها.
وحين تتذرع جهات التحقيق في الولايات المتحدة بحجم (إتش إس بي سي) لكيلا توجه له تهم جنائية خوفا على اهتزاز الثقة بالنظام المصرفي العالمي، وبالتالي تعريض النظام المالي العالمي للخطر, فإنها تبدو كمن يتذرع بحق كي يحقق غاية باطلة. كما تظهر أمامنا بمظهر الذي يقبل السكوت مقابل مبلغ من المال (قيمة تسوية إتش إس بي سي 1.9 مليار دولار في قضية اتهامات التغطية على تجار المخدرات في المكسيك). والحقيقة أن مطلب الرأي العام العالمي ليس إدانة (إتش إس بي سي), بل المطلب الحقيقي إدانة القائمين عليه وتقديمهم للعدالة والمحاكمة لأخذ الجزاء على ما سبق وإن اعترفوا به. فمحاكمه صناع القرار في كل من (إتش إس بي سي) و(ستاندرد تشارترد) في قضايا التغطية على تجار المخدرات في المكسيك وفي قضايا التغطية والتعامل مع الدول والمنظمات والشركات الإرهابية الذي وصل إلى حد تقديم دورات تدريبية في كيفية اختراق أنظمة رصد الأموال في البنوك والدول كذلك, أقول محاكمة صناع القرار هؤلاء, هو المطلب الأساسي للرأي العام, ومن دونه سيكون المستقبل صورة طبق الأصل للماضي. فالرادع الحقيقي للممارسات الإجرامية تطبيق حازم للعدالة, وليس تهديدا ووعيدا لغرض المشاركة في كعكة الأرباح. إلا إذا كان كل ما يحدث أمام أعيننا مجرد مسرحية مرسومة بخبث فائق في ليل أظلم.
وحين نقرأ نتائج التصويت الذي أطلقته صحيفة "الجاريان" البريطانية, الذي يستطلع الرأي العام فيما إذا كانت رسالة رئيس باركليز لموظفيه ستسهم في التغيير في بيئة وعادات المصرف, نجد أن نحو 70 في المائة من المصوتين لا يعتقدون بذلك. ولعل من دلالات نتائج التصويت هذه أن الرأي العام والغربي بالأخص, لم تعد تنطلي عليه الألاعيب الإعلامية التي يمارسها المصرف بغرض تلميع صورته وسمعته السيئة التي استحقها عن جدارة. فالرأي العام الدولي والغربي بالأخص يريد أن يرى محاكمات لكل من تورط في قضايا الرشوة التي هدفت إلى استقطاب مستثمرين لرفع رأسماله, وقضايا التآمر والتزوير في أسعار الفائدة بين البنوك في لندن (اللايبور) التي حاكها باركليز بخبث ومكر. فوحدها تلك الإجراءات ما سيضمن تحسن البيئة الداخلية للمصرف, ووحدها تلك الإجراءات ستمثل رادعا لكل من تسول له نفسه أن يضرب بعرض الحائط القيم الأخلاقية والإنسانية التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من أساس وصميم العمل المصرفي.
إن ما آلت إليه نتائج التحقيقات التي تجريها جهات رسمية في الولايات المتحدة وبريطانيا (إلى الآن), لا يشكل رسالة تطمين سواء للدول التي تعمل فيها المصارف الخاضعة للتحقيق أو المجتمعات والأفراد الذين يتعاملون مع هذه المصارف. فعدم إخضاع القائمين على إدارة هذه المصارف للمحاكمة العادلة أسوة بكل من يتسبب في دمار وهلاك الشعوب والأمم, والتذرع بأعذار غير مقبولة ولا مستساغة, يثير علامات استفهام كبيرة عن علاقة هذه المصارف بالأجندة السياسية والاقتصادية الخفية للدول التي تحمل هذه المصارف جنسيتها. كما أن طريقة تعامل الدول الغربية الكبرى مع هذه المصارف تحتم على الدول المتضررة كافة أن تأخذ المبادرة بنفسها لردع هذه المصارف عن طغيانها ومكرها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي