قاتلات الإبداع

يكاد يتفق النقاد والمحللون على أن أهم العوامل التي أسهمت في تقدم المجتمعات المتحضرة وتحقيقها قصب السبق في ميدان الحضارة العالمي، هو توافر جو مشجع على الإبداع والمبدعين.
الذي يقرأ سير الرواد البارزين وقصص نجاحات المنظمات والشركات المتميزة، يلاحظ أن أولئك الرواد وتلك المنظمات خرجت عن المألوف وفكرت خارج الصندوق وشجعت على الإبداع وقبلت الرأي الآخر. عدم تشجيع الأفكار الخلاقة الجديدة والرأي الآخر، عادة سيئة أسهمت في حرمان المجتمعات في الدول النامية من كثير من الفرص، التي لو تم استثمارها بشكل موضوعي لحققت تقدما ملموسا في ركب الحضارة العالمية في عصرنا الحاضر.
احترام الرأي الآخر منهج حضاري، وهو أصل في ديننا العظيم. يقول الشافعي - رضي الله عنه: ''رأينا صحيح يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصحة، ومن جاء بأفضل مما عندنا أخذنا به''. أي فكرة جديدة أو رأي جديد يطرحه عامل من رئيس أو مرؤوس، هو في الواقع قيمة مضافة للمنظمة.. إذا كان هناك من قيمة خاصة بهذا العصر، فهي التركيز على دعم وتشجيع الإبداع من قبل المنظمات الرائدة في العالم. لقد أدرك هؤلاء أن تشجيع الإبداع هو الميزة التنافسية التي قد تحقق لهم قصب السبق على الآخرين. يقول بريان تريسي: إذا أردت أن تحقق شيئاً لم تحققه في السابق، فعليك بالتفكير بطريقة مختلفة.. عندما أرادت تلك المنظمات أن تحقق مراكز متقدمة في مضمار الماراثون الاقتصادي، جعلت من الإبداع عادة عملية لا استثناء. يقال إن الأمية مرت بثلاث مراحل: مرحلة أمية الكتابة والقراءة، ثم مرحلة أمية التقنية، وأخيرا مرحلة أمية العصر الحاضر أمية الإبداع.
في الأسبوع الأخير من هذا الفصل الدراسي قدم الطالب زياد المطيري عرضا أمام زملائه عن ''قاتلات الإبداع'' كأحد متطلبات مادةOrganizational Behavior في كلية إدارة الأعمال في جامعة الملك سعود، واستطرد الطالب في ذكر قاتلات الإبداع في مجتمعنا، حتى كأننا (الطلبة والأستاذ) أصبنا بإحباط شديد لكثرة مثبطات أو قاتلات الإبداع - كما سماها الطالب. وتبين لي أن مثبطي الإبداع أبدعوا حقا في إجهاض الأفكار الإبداعية الجديدة، من خلال الاستخدام السلبي لمعظم المصطلحات اللغوية الجميلة التي تزخر بها لغتنا العظيمة. كم أسهمت كلمة ''لكن'' في تحطيم فكرة إبداعية خلاقة. كثير هم أولئك الرؤساء الذين يصغون إلى الأفكار الإبداعية من مرؤوسيهم بشكل جيد، وبعد ثنائهم على الفكرة وعلى صاحبها يتم الاستدراك بهذا الحرف البسيط في لفظه القاتل في معناه. يقول أصحاب الأفكار والإبداعات عندما يستدرك المدير ويستخدم هذا الحرف، أعلم أن فكرتي دفنت بسلاح ناعم. وطالما أننا في معرض الحديث عن الوسائل الناعمة لتحطيم الإبداعات، فقد تلاحظ لي أثناء تقديم الطالب عرضه، أن زملاءه أبدعوا هم الآخرون في التذكير بالمثبطات الناعمة للإبداع في مجتمعنا. قال أحدهم، عندما يطلب الرئيس من صاحب الفكرة أن يكتب له عرضا مفصلا عنها، فإن ذلك يعني إجهاض الفكرة، لكن بأسلوب ناعم، وعندما يشير إلى أنها فكرة جيدة، لكن الوقت غير مناسب، أدرك حينئذ أن ذلك إماتة للفكرة، لكنه موت بطيء. كثير هم أولئك الذين يركزون على نقاط الضعف القليلة في أي طرح جديد، ويتناسون نقاط القوة الكثيرة فيه، وفات على هؤلاء أنه لو تم تطبيق هذا المبدأ عليهم لما تمكنوا من استكمال مراحل الدراسة المختلفة ولما وصلوا إلى ما هم فيه حاليا، ففي التعليم الجامعي - على سبيل المثال - يحصل الطالب على درجة ممتاز، مع أن لديه عشرة أخطاء.
في اعتقادي أن في مقدمة العوامل المساعدة على تسريع عجلة النمو في مجتمعنا، هو تشجيع الإبداع وتبني الأفكار الإبداعية. إذا كنا نؤمن بأن الإبداع والأفكار الإبداعية والتفكير الخلاق ضرورة لا ترفا، فإن علينا أن نجعل ذلك المبدأ جزءا من سلوكنا الاجتماعي والعملي، وهو أمر يقتضي غرس هذه القيمة لدى النشء في مراحل التعليم المتقدمة، وتأصيل هذا المفهوم في ميادين الأعمال المختلفة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي