ظواهر إدارية قاتلة اقتصاديا

اتسم الاقتصاد السعودي بظواهر إدارية فريدة لم تُعط حقها من التمحيص، إذ إن هذه الطفرة وحالة الارتخاء تسهل تمرير هذه الظواهر المرة. بل أكاد أجزم أن تأثيرها المؤسساتي الجمعي قد يكون من أهم المخاطر على الاقتصاد السعودي على الرغم من أنها فرادى قد تبدو سطحية أحياناً وضرورية أحياناً أخرى.. لن يتسع العمود لسردها ولذلك سأكتفي بثلاث ذات علاقة مع الاستحقاق التنموي.
الظاهرة الأولى، ما بدا أنه جهاز حكومي موازٍ فبعد أن اطمأن الكثير على عجز وتقصير الكثير من القطاعات الحكومية، في ردة فعل اتجهت هذه الجهات إلى استحداث مؤسسات وشركات وأحياناً أسندت المهام الرئيسة في هذه أو تلك إلى مكاتب استشارية ومستشارين نافذين بعزلة عن آلية القرار التقليدية في هذه القطاعات. تأخذ هذه الظاهرة أشكالاً وأبعاداً تختلف حسب شخصية المسؤول الأول. إفرازاتها كثيرة منها إحباط الجهاز القائم ورفع التكلفة والتخمة التوظيفية، وخاصة من خلال توظيف عناصر غير وطنية؛ بعضها عالة مالية عدا عن أنها غير متناغمة مع عزم الحكومة على التوطين. كما أن البعض اكتشف فرصة التقاعد المبكر ثم التعاقد مع الجهة نفسها، فبدأت مؤسسة التقاعد أو التأمينات في دفع مستحقات مبكرة لمدة طويلة والحكومة تدفع عبئاً مالياً آخر لإنتاج قد يكون أقل.
الظاهرة الثانية، مع تكاثر الخريجين المؤهلين إلا أن الكثير من الأجهزة الحكومية بدا وكأن المملكة تشابه تركيبة اليابان السكانية، فكل وزارة ومؤسسة تعمد إلى تمديد الكثير من موظفيها وكأن هؤلاء مواهب فريدة. مرة أخرى نرفع التكاليف ونكرّر تجارب غير مجدية ونأخذ فرصة من يستحق التدريب. صعقت لما ذكر لي أحد المختصّين السابقين، أن هذه الظاهرة المقيتة امتدت إلى "أرامكو" في فشل إداري دخيل على الشركة بعد أن تمكّن العنصر الوطني من زمام الإدارة وبدأ ضعف التخطيط وأنماط العلاقات الشخصية يجد مكانه. وحتى لو ذكرت "أرامكو" أنه مجرد بضع عشرات، أقول إن أي استثناء مدخل للفساد والتلاعب. بعد سن الستين ليس لأحد مكان إلا إذا كان عالماً له اختراعات عدة مسجّلة باسمه ويعشق معمله. ليست "أرامكو" الوحيدة ولكن اقتصاد المملكة دون مثال "أرامكو" يعتبر ظاهرة خطيرة.
الثالثة ترتبط بعدم توصل الجهاز الحكومي إلى آلية مثبتة ومجربة لتمحيص وتوثيق تجربة وتعليم الطبقة التكنوقراطية، فهذه هي المنفذة لرؤية القيادة وهي التي بين الوزارة وبقية الجهاز تنفيذاً وإشرافاً. الكثير من هؤلاء وصل بعد أن حصل على شهادة دكتوراه دون معرفة مدى قدراته وجدية أبحاثه وحتى سلسلة مقابلات شخصية نافذة وصريحة معه. ومما يزيد الطين بلة تردّدنا المزمن في التخلص من المقصر منهم وهم ليس بقليل. الكثير من الدول لديها كليات سياسات عامة على مستوى عال ودقة وفرز في القبول بعد أن يتخصّص الشخص في أي مجال علمي آخر لمعرفة الإدارة وخطط البلد والبيئة القانونية والنظامية وترابط الأجهزة الحكومية وصفاته الشخصية لمعرفة مدى استعداده وقدراته القيادية.
ما الحل؟
سيقفز لأذهان البعض أن السبب والحل في احترام النظام والتخطيط وتفادي الواسطة وما إلى ذلك من مثاليات لن تجد طريقها إلى أرض الواقع. أعتقد أن السبب هو غياب مظلة النموذج الذي يستطيع توحيد جهودنا للتعامل مع هذه الظواهر الصغيرة والمسالمة ولكنها سرطانية التأثير، إذ إن الفشل ما هو إلا عبارة عن سلسلة تنازلات صغيرة هنا وهناك واستهتار بسيط هنا وإحباط مؤقت هناك. الحل الفعلي مدخله منظومة سياسات اقتصادية تنموية. أهمها إعادة النظر في سياسة الدعم الذي وصل طبقاً لمنظمة الطاقة الدولية إلى 43 مليار دولار للوقود عام 2011 فقط. ثم التخصيص الفاعل وإعادة الأراضي إلى مَن يستحقها ويحتاج إليها سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات حكومية، وحماية المواطن السعودي من الهجرة الاقتصادية تحت مسمى تشجيع القطاع الخاص، وتسهيل محاسبة السعودي المقصر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي