Author

لكيلا يبقى الفقير .. فقيراً

|
تستنجد السيدة الفقيرة بمن يدفع عنها مبلغ 40 ألف ريال لتتخلص من همّ الدين. لكن هل يستطيع المجتمع أن يتفاعل مع مشكلة كهذه دون التعرف على أصولها والتأكد من مصداقية السيدة؟ سؤال مهم ذكرني بنقاش مع أحد منسوبي ''التربية والتعليم'' عن جدوى تسوير المدارس. كنت أرى في التسوير تحييد لدور المدرسة الاجتماعي. دار النقاش حول أهمية أن تكون المدرسة مركزاً مجتمعياً، وحاوية لنشاط صغار السن وكبارهم في الحي. رأيت في كثير من دول العالم مدارس تفتح أبوابها حتى العاشرة مساءً. يمارس فيها محبو الرياضة ألعابهم المختلفة في منشآت جيدة المستوى والتجهيز. هذه الدول تحقق الذهب في الألعاب الأولمبية، لأن المجتمع ينظم السلوك الرياضي ويكتشف المواهب في سن مبكرة وينميها. كان المحاور يرى أن الدور الأهم هو للمسجد. طبعاً المسجد مهم ويرتاده أقل من ربع سكان الحي خمس مرات كل يوم، لكنه لن يحقق كل المتطلبات التي يحتاجون إليها كباراً وصغارً، نساءً ورجالاً. يحتاج المجتمع - الحي هنا - إلى مركز يحتوي النشاط الرياضي والخطابة والمسرح والفنون بمختلف أنواعها، إضافة إلى النشاطات الاجتماعية. يذكرني هذا بأيام كانت ''وزارة المعارف'' مسؤولة عن رعاية الشباب. في ذلك الزمن كان النشاط الرياضي والثقافي والاجتماعي أكثر تركيزاً وكفاءة وانتشاراً. توقع الجميع أن تنتشر الملاعب الرياضية والمراكز الشبابية في كل الأحياء بعد استقلال الرئاسة العامة لرعاية الشباب، إلا أنها تحولت إلى راعية للنوادي الاحترافية البعيدة عن المجتمع الصغير. وهو ما يقودني إلى التساؤل: لماذا لا نعيد رعاية الشباب إلى وزارة التربية والتعليم؟ ونحول المدرسة إلى مركز مجتمعي يجد فيه الجميع ضالتهم، بينما تبقى النوادي احترافية تتبع الاتحادات وتستقبل مخرجات ''رعاية الشباب''. النقاش السابق كان عقب انتشار خبر تعرض منشآت الكورنيش الجديدة في محافظة جدة للتخريب قبل افتتاحها، من قبل أشخاص لا يمكن أن نبرر سلوكهم إلا بأنه حالة فشل مجتمعي في ترسيخ وتجذير حب الوطن والمحافظة على مكتسباته، تُسأل عنه الأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام. ليس هناك شك في أن لدينا فصاما اجتماعيا خطيرا. الحي لم يعد يجمع ساكنيه أي تنظيم. يذهب الواحد منا إلى عمله ويعود ويمارس كل نشاطاته في نطاق ضيق لا يضم جيرانه. لدرجة أنك قد تجد فقراء في الحي لا يعلم عنهم أحد. تجد حالات من العنف والإساءة لا يراقبها أو يكشفها أحد. يندهش الجميع عند اكتشاف شخص يروج المخدرات بين الأطفال دون أن يعرف أحد شيئاً عنه، والأدهى أنه قد يُكتشف ويُحاكم ويُسجن ويخرج من السجن دون أن يعلم جيرانه. تلك السيدة التي تعاني الفقر، يمكن أن يساعدها جيرانها من خلال توفير عمل شريف أو صندوق اجتماعي أو حرفة تتعلمها وتتكسب منها، أو حتى بالاستفادة مما تتقنه أصلاً كالطهي أو الخياطة، كل هذا كفيل بإنهاء معاناتها. شهدت في محافظة سراة عبيدة دعما مجتمعيا لسيدة كان ناجحاً إلى حد كبير. فبعد معرض للأسر المنتجة، أصبحت تحقق دخلاً يقارب ستة آلاف ريال شهرياً من عملها في طهي الطعام. يعيب كثير من جمعياتنا الخيرية أنها متقوقعة على نفسها. تقع ضحية معلومات مرسلة غير دقيقة من موظفيها أو المتعاونين معها. هذا الأسلوب لا يخدم الحال في مجتمع اليوم. ففي الأحياء التي يسكنها عشرات الآلاف - حيث لا مرجعية للتعرف على المحتاجين - تقع الأخطاء وتُستَغل الجمعيات، شاهدت ذلك في مراكز صغيرة، فكيف بالمدن الكبيرة؟ يجب أن تتحول الجمعيات إلى مراكز منتجة. يجب أن تتبنى مشاريع وبرامج طموحة وذكية وملائمة لحال المجتمع. يذكر لي أحد رجال الأعمال أن الجمعية تطالبه بالمال من خلال الاتصال أو الخطابات التي ترسل لكل من لديه سجل تجاري، بغض النظر عن نشاطه أو ملاءته. ويؤكد كذلك أنه يرغب في عمل خيري يصل للمحتاجين فعلاً، لكنه يشك في قدرة هذه الجمعيات على تحقيق توقعاته. ذكر أنه في النهاية أصبح يقدم تبرعاته لمجموعة من نساء الحي الذي يعيش فيه، لقناعته أنهن يطلعن شخصياً على أحوال الأسر التي يدعمنها. لكن المهم - في رأيي - ليس أن نصرف على الفقير ليبقى فقيراً. المهم أن نقدم للفقراء الفرصة للخروج من طوق الفقر، بما نوفره لهم من مجالات العيش الكريم. فكرة الأسر المنتجة جيدة، لكنها محصورة في وقت معين ومكان معين، فلماذا لا تتبنى الجمعيات توسيعها وإنشاء مراكز تبيع إنتاج الأسر طوال العام. يمكن أن تتبنى الجمعيات إنشاء مراكز في الأحياء بالتعاون مع المدارس لتسويق منتجات الأسر الفقيرة. كما يمكن أن تسهم المدارس في توفير القاعات والورش لتدريب المحتاجين على مهن أو مهارات تساعدهم على تحقيق العيش الكريم. نستطيع أن نشاهد كثيرا من المبادرات والبرامج من خلال الاطلاع على مواقع الجمعيات الخيرية في دول أخرى، ونحاول أن نطبق ما يلائمنا منها. الغرض النهائي هو تكوين منظومة اجتماعية تعاونية نحقق من خلالها تقريب أفراد المجتمع من بعضهم، وتسهم في الربط بين مكونات المجتمع الرسمية والشعبية. بحيث يضطلع كل من المسجد والمدرسة والجمعية التعاونية والأسرة بواجباته في استعادة روح المجتمع التعاونية والأخلاقية التي كانت سائدة في أحيائنا، وتحمي المجتمع من الفساد والفقر والإرهاب والتخريب والجريمة.
إنشرها